علاقة الرسول بالخالق العظيم جل في علاه (المقال المختصر)

علاقة الرسول بالخالق العظيم جل في علاه (المقال المختصر)
في هذا المقال سوف نخطو أولى خطواتنا في وضع مفاهيم لمنهجية فهم قصة الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيكون مقال اليوم هو المقال المُختصَر ضمن الثلاث مقالات التي تتناول هذا الموضوع كعادتنا في النشر. وكما يعلم الأخوة المتابعين، فإننا وضعنا سبع مفاهيم تساعدنا لوضع منهجية لفهم قصة نبينا محمد عليه السلام. وأول هذه المفاهيم هو:

المفهوم الأول: علاقة الرسول بالخالق العظيم جلَّ في علاه
وهنا نحن نهدف بصفة عامة إلى أن نضع قصة الرسول ضمن الأطر الصحيحة والسياقات المناسبة، التي توضِّح دوره وعلاقته عليه السلام بكل أطراف المشهد الذي سنفهم القصة من خلاله. وفي هذا المشهد نجد على رأس كل شيء رب العزَّة جلَّ في علاه، ثم بعد ذلك يأتي أصحاب النبي والجيل الذي عاصره وعاشره، وكذلك كل الأجيال التي تأتي من بعد من الذين آمنوا به وصدَّقوا رسالته. ولذا يمكن بسهولة فِهم قصة الرسول بشكل أفضل لو تمكنا من رؤية مشهد أوضح، وإذا استطعنا النظر من أعلى لصورة أكبر عن كل ما جرى من أحداث. وما ورد من أقوال نسبت للرسول عليه الصلاة والسلام.

علاقة الرسول برب العزة جل في علاه هي أحد أهم الصور التي يجب أن نفهمها لكي نصل لفهم أفضل لقصة النبي؛ وبالتالي فهم أفضل لديننا. ولكي يسهل وصف وفِهم علاقة الرسول بربه جل في علاه، فسوف أضع مفهوم هذه العلاقة في نقاط كالتالي:

النقطة الأولى:
أول أمر يجب أن نضعه نصب أعيننا عند التفكير في العلاقة بين الله عز وجل وبين رسوله محمد عليه السلام، هي أنَّ الرسول بشر من عباد الله مثل باقي البشر. مقام الرسول عند الله مقارنة بباقي البشر هو أمر بين الله ورسوله ولا علاقة لأحد به. وفي كل الأحوال حقيقة من يكون الرسول كمخلوق، هو أمر لا علاقة له بمكانته عند ربه جل في علاه.

قد يبدو هذا الأمر واضحاً، لكنَّ الأمور للأسف تختلط على عموم المسلمين لوجود مبالغات هائلة في تعظيم الرسول تصل حد التقديس ناتجة عن روايات مكذوبة تم نسبها للرسول تتناقض كلها مع القرآن الكريم. فلا يخفى على أحد وجود فِرَق وجماعات صوفية تتطرف في تعظيم الرسول حد جعله نداً لله. فعلى سبيل المثال: ذات مرة في خطبة جمعة لم أكد أصدق ما أسمعه من الخطيب وهو ينفي عن الرسول صفة البشرية ويقول أنه خُلِقَ خَلق مباشر من نور الله، و بل أنَّ الله قد خلق كل شيء من نور الرسول وأنَّ كل السموات والأرض وما فيهن خُلِق من أجل الرسول. 
طبعاً هذا الخطيب لم يخترع شيء من عنده، وإنما جاء به من كتب التراث ومن روايات تم نسبها للرسول نفسه عليه السلام.

ومثل هذه المبالغات وتحريف وتزييف نوع العلاقة بين الله جل في علاه وبين رسوله عليه السلام، ستقود بكل تأكيد لفهم مشوه لقصة الرسول ولدوره. بل سيتم تحريف الكثير من المفاهيم التي جاء بها القرآن وسنخرج بفهم منحرف غير سوي لديننا. لذلك، كان لابد أن نُنزل علاقة رب العزة جل في علاه برسولنا محمد عليه السلام المنزل الصحيح الذي يساعدنا على فهم قصة النبي الفهم الصحيح.

النقطة الثانية:
الأمر الثاني الذي يجب أن نضعه في حسباننا عند محاولة فهم قصة الرسول عليه الصلاة والسلام، هو دور الرسول كرسول مُبلَّغ لرسالة وليس نداً لله يُشرِّع لنا مثله سبحانه و تعالى. هذا الأمر يُعتبر من أكثر المفاهيم الخاطئة انتشاراً بين المسلمين، حيث أنَّ عموم المسلمين يخلطون بين استخدام سيرة النبي وأقواله وأفعاله وقصته كأداة من أدوات فهم شرع الله في القرآن، وبين استخدام أقوال وأفعال وقصة الرسول وسيرته كمصدر موازي للتشريع. 
هناك فرق هائل بين أن نستخدم أقوال النبي كأداة لفهم الشريعة في القرآن، و بين أن نستخدم أقوال الرسول في حد ذاتها كشريعة موازية للقرآن. الفرق هائل  وشاسع ولكن للأسف حصل انحراف كبير في هذا المفهوم منذ قرون طويلة أدى لانحراف كبير لفهم رسالة النبي التي جاء ليبلغها.
لذا فإنَّ أحد أهم المفاهيم التي يجب أن ننتبه لها لفهم قصة الرسول هي علاقة الرسول بالله جل في علاه من ناحية التشريع. فالرسول هو حامل لشريعة تم تكليفه بتبليغها من قِبل الله عز و جل وليس نداً لله يقدم تشريعات موازية. حتى من يستخدم قوله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) نسي أنَّ التبييِّن ربطه الله جل في علاه بقوله (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ (((مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))) أي أنَّ تبييّن الرسول مقيد بما أنزل ابتداءً. فليس للرسول بأن يأتي بتشريع من عنده بالمطلق، وإنما له تبييِّن ما شرَّع الله في القرآن. 

وليس أدل على أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك حق التشريع من تحليل وتحريم، ليس أدل على ذلك من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). 
فهذه الآية الحاسمة تبيِّن بوضوح كيف أنَّ الرسول لا يملك أن يُشرِّع لنفسه فما بالكم بأن نتخيل أنه يملك التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم.

أحد الأمثلة على هذا الانحراف هو ما يُسمى حد الرجم للزاني المحصن. فكثير من المسلمين للأسف يعتقد أنَّ هذا شرعاً دينياً وحدَّاً من حدود الله جل في علاه، إلا أنه زور وباطل وبهتان ما أنزل الله به من سلطان. فما حصل هو أنه تم إهمال حقيقة أنَّ النبي لا يملك التشريع وإنما مُكلف بتبليغ القرآن و تبيينه. وإهمال هذه الحقيقة جعلنا نسيء فهم قصة النبي. 

إنَّ قصة النبي تشمل كل شيء من سيرته وأقواله وأفعاله. و لفهم قصته بشكل صحيح، كان يجب أن نضع المفاهيم التي أتكلم عنها هنا. فورود روايات تنسب تشريع النبي لما يسمى حد الرجم, بل وتنسب له فعل ذلك بنفسه، ما كان يجب أن نأخذ بها وكان يجب رفضها وردها لأنه لا يوجد أصل لها في القرآن بالمطلق. أي أن ما يسمى حدَّ الرجم لا علاقة له بالقرآن ولا وجود له فيه بالمطلق .... على الإطلاق .... ومع ذلك، تم اختلاق الكثير من التشريعات والحلال والحرام من قصة النبي وأقواله وأفعاله وهم يعلمون أنها لا أصل لها في القرآن.


خلاصة النقطة الثانية هي أن علاقة الرسول بالله من ناحية التشريع هي تبييّن التشريع و ليس استحداثه؛ لأنَّ النبي لا يملك حق استحداث تشريعات على نفسه فضلاً على غيره بنص القرآن. وهذا التبيين محدود بحدود الزمان والمكان كما سنبيِّن لاحقاً من خلال رحلتنا في مفاهيم لمنهجية فهم قصة الرسول عليه الصلاة والسلام.

النقطة الثالثة:
هي في الحقيقة تُعتبر توسعة للنقطة الأولى، فمن خلال النقطة الأولى أوضحنا أنَّ الرسول عبداً رسولاً لله جل في علاه، وأنه بشر مثل باقي البشر. وبتوسيع الفكرة، سنجد أنَّ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو رسول قد خلت من قبله الرسل وهو ليس بدعاً منهم. فحتى لو أنَّ الله فضل بعض النبيين على بعض، إلا أنه لم يقدم لنا قائمة بترتيب الأنبياء المفضلين عنده واحتفظ بهذا لذاته العليا سبحانه. من يقولون أنَّ نبينا محمد هو أفضل الأنبياء والمرسلين، سأقول لهم، أأذِنَ لكم الله أم على الله تفترون؟ أأطلعكم الله على الغيب أم أنكم وجدتموه في القرآن؟ 

للأسف لن يأتي هؤلاء بشيء سوى بعنعنات وروايات آحاد ظنية لا تُغني من الحق شيئاً. لا يوجد بالمطلق .... على الإطلاق .... بكل أشكال النفي المطلق، لا يوجد شيء في القرآن يقول أنَّ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء والرسل. لا يوجد. ومن يتحجج بروايات آحاد ظنية للإدعاء أنَّ النبي هو نفسه من قال أنه أفضل الأنبياء والرسل، فيكفيه قول الله عز وجل:
 (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). 

تكفيهم هذه الآية إن كانوا يعقلون. لاحظوا بداية الآية (قل) أي قل يا محمد! قل ماذا؟ قل آمنا بالله والنبيون من ربهم (لا نفرق بين أحدٍ منهم). 
فهل خالف الرسول الكريم والمُبلِّغ الأمين أمر ربه وقال للناس أنه أفضل الأنبياء والمرسلين؟ ما لكم كيف تحكمون؟

خلاصة النقطة الثالثة هي أنه من ضمن ما يجب أن نعرفه عن العلاقة بين ربنا عز وجل، وبين نبينا محمد عليه السلام هو أنه رسول جاء ضمن سلسلة من الرسل لا نفرق بين أحد منهم لأنهم جميعاً جاءوا لخدمة الإنسانية وهو ما يهمنا ويمسنا في علاقة الرسول بربه. أما معرفة هل نبينا محمد عليه السلام هو أفضل عند الله من باقي الرسل أم لا، فهو أمر يخص الذات الإلهية ولا يحق لنا التدخل فيه ما لم يخبرنا الله عز وجل به وهو الأمر الذي لم يحصل بالمطلق. 

النقطة الرابعة:
النقطة الأخيرة التي يجب أن ننتبه لها عند التفكير في علاقة الرسول بربه عز و جل هي أن الرسالة تكليف وليست تشريف. ولكي لا يُساء فهمي، فشرف الرسول وعظمة أخلاقه وقوة شخصيته هو ما أهَّلُه لكي يحمل عبء التكليف. فالضعفاء والبسطاء والعاديون لا يمكن أن يُحمِّلهم الله جل في علاه أعباء عظيمة. 

الأعباء العظيمة لا يحملها إلا العظماء ونبينا محمد عليه السلام كان إنساناً عظيماً. ما أود لفت الانتباه له هنا هو أنَّ التشريف يعني مكافئة ومجازاة، ودارنا الدنيا ليست دار جزاء، وإنما دار عمل ودار تكليف. وهذا في حد ذاته يبيِّن أن فكرة اعتبار أنَّ اختيار الله للأنبياء هو تشريف لهم، هي فكرة غير سوية.

الأمر الآخر هو حقيقة أن الأنبياء عندما تم تكليفهم بحمل الرسالة، فهذا يعني أنه تم وضعهم موضع الضغط والتعب والمعاناة وعلى طريق العذاب والموت. وهو واقع كل الأنبياء والرسل. فكلهم تعرضوا للضغط والمعاناة والألم والعذاب وحتى القتل بسبب الرسالة التي تم تكليفهم بحملها. وهو الأمر الذي ينفي الصورة المشوشة التي تم زرعها في عقولنا بأنَّ العلاقة بين الله ورسله عموماً - وليس رسولنا محمد فقط - هي علاقة تشريف وتكريم، في حين أنها كانت علاقة تكليف بمشقة ومعاناة وتعريض للقتل والخطر. 

هناك فرق بين أن نحب الأنبياء والرسل ونعظِّم دورهم الرائع السامي في تحسين حياة الإنسانية، وبين أن نعظمهم هم أنفسهم. فعندما نعظِّم دورهم وإسهاماتهم سنركز على معاناتهم والثمن الذي دفعوه لتصل الرسالات فنعرف قيمة الرسالة ونركز عليها، بينما تعظيم ذواتهم غالباً ما ينتهي به الأمر إلى التقديس المبالغ فيه وهو ما حدث للأسف. 
فعيسى عليه السلام بدل أن يكون رسول عاني وتعب لتصل رسالته فنعرف قيمة الرسالة بقيمة المعاناة، صار عند النصارى الله ذاته أو ابن الله بسبب التقديس المبالغ فيه، سبحان الله وتعالى عن ذلك. وحتى نبينا محمد عليه السلام بدل أن نركِّز في قصته على معاناته والعذابات التي مر بها لكي تصلنا رسالة القرآن، فنعرف قيمة القرآن بحجم المعاناة، للأسف تم تقديس الرسول نفسه وبالغ البعض لدرجة أنه صار بين المسلمين فِرق تنفي عن الرسول صفة البشرية وتجعله مخلوق مباشرة من نور الله وتجعل كل الكون مخلوق منه ومن أجله.
خلاصة النقطة الرابعة هي أنَّ عدم فهم أحد جوانب علاقة الرسول بربه من ناحية مفهوم التكليف والتشريف، وانتشار وغلبة مفهوم التشريف على مفهوم التكليف، يؤدي إلى انحراف تركيزنا وصرف انتباهنا وعقولنا عن رؤية عظمة الرسالة. فبدل أن نركز على عظمة الرسالة اتجه تركيزنا لعظمة الرسول، ناسين أنَّ الرسول ما تحمل كل هذه الأعباء العظيمة إلا لكي نرى عظمة الرسالة التي يحملها.

صلى الله على نبينا الذي تحمل كل هذه الأعباء لكي نسير على طريق #سعادة الدنيا والآخرة. تلك #السعادة التي نسعى لاستكمال مشوارها والوصول لديمومتها.

دمتم ودامت لكم العافية.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...