مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده
ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات المُصوَّرة على قدرتي لانتزاع وقتٍ لاستكمال كتابة المقالات. وعلى كل حال فقد عُدنا والحمد لله على منَّته ونعمه.
اليوم نستكمل مشوارنا في سلسلة مقالات مفاهيم منهجية قراءة قصة الرسول عليه الصلاة و السلام. وقد وصلنا للمفهوم الثالث من المفاهيم السبع التي وضعناها ضمن منهجية قراءة قصة الرسول عليه السلام. فقد تناولنا علاقة الرسول مع الله سبحانه وتعالى ووصلنا، قبل الانقطاع، لعلاقة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
اليوم نتناول مفهوم جديد سيساعدنا كثيراً على قراءة قصة الرسول وفهمها بشكل صحيح بعيداً عن اجترار قصص السيرة هي هي كما هي. هذا المفهوم هو علاقة الرسول الكريم بمن جاء بعده. وهنا أقصد بكل الأجيال التي جاءت بعد وفاة الرسول منذ أكثر من 1400 سنة إلى أن تقوم الساعة، وهو الأمر الذي يجعل جيلنا الحالي مشمول ضمن كل هذه الأجيال.
ولأنَّ
علاقة الرسول بأصحابه ومن عاصره كمفهوم تشتبك مع مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده
من أجيال، فسنحتاج للتذكير بأنَّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يتلقَّى
الرسالة في سن الأربعين كان بالنسبةِ لمن حوله أب وزوج وصديق وجار. وبعد نزول
الوحي على نبينا محمد عليه السلام ظهر بُعد آخر لعلاقة الرسول بمن حوله. تمثَّل
هذا البُعد في أنَّه أصبح رسول مبلّغ لرسالة الله عز وجل، وظل الحال على ذلك في
مكة قبل الهجرة للمدينة. وبعد هجرته للمدينة زاد تنوُّع أشكال علاقة الرسول بمن
حوله بشكل كبير، بحيث لم يعد فقط رسول مبلغ رسالة فقط وأب وزوج وجار وصديق، بل وصار
أيضاً حاكماً سياسياً وقائداً عسكرياً وقاضي القضاة.
يمكن بسهولة بقراءة القرآن بتمعُّن ونحن نبحث عن قصة الرسول، وكيف كانت علاقته بمن
حوله ومن عاصره وعاشره، يمكن بسهولة أن نرى كل هذه الأبعاد المتنوعة للعلاقة بينه
عليه السلام وبين من حوله و كيف تطورت بمرور الزمن، والتي تتجاوز بكل تأكيد كونه
رسول يحمل رسالة الله تعالى.
أهمية تمييز هذه الحقيقة والانتباه لها هو أنَّها من ضمن ما نحتاجه وما سيساعدنا كثيراً لفهم قصة الرسول صلى الله عليه وسلم سواء ما ورد منها في القرآن أو ما ورد منها في روايات كتب الحديث أو كتب السيرة. فأحد أكبر الأخطاء التي نقع فيها هي أنَّنا نقرأ قصة الرسول في القرآن وفي الروايات، ونفسِّرها ونفهمها على أساس واحد فقط، وهو أنَّ علاقة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمن عاصره وعاشره، هو أنَّه كان رسول يحمل رسالة، بينما هو كان لهم اكثر من ذلك بكثير. وهذا مفهوم كوننا، ربما، متأثرون بكون النبي ليس أباً لأحدنا، ولا ابن عم لأي منَّا ولم نعاصره كي يكون لنا قائداً سياسياً أو عسكرياً أو قاضياً تحتكم له الناس سواءً من آمن به أو من لم يؤمن به.
إغفالنا لحقيقة تنوُّع علاقة النبي صلى الله عليه وسلم مع من عاصره وعاشره جعلنا عندما نتعامل مع قصته ونحاول فهمها، فإنَّنا نفسِّر كل أفعاله وأقواله على أنَّها أفعال وأقوال رسول لا ينطق إلا وحياً، ولا يحرك ساكناً إلا بوحي. وهو الأمر غير الصحيح بالمطلق. فالرسول كان بشراً ولم يكن آلة لا تتفاعل مع محيطها وليس لها مشاعر ولا تتأثر بما يحصل حولها. لم يكن رجل آلي يحتل جبريل عليه السلام لسانه فلا ينطق إلا وحي السماء كما يعتقد البعض.
وقد خصصنا مقالات كاملة لمناقشة الفكرة المتوارثة الخاطئة التي تقول أنَّ كل ما ينطق به النبي وحي. هذا أمر عارٍ عن الصحة تماماً بنص القرآن وبالمنطق البسيط. ولمن أراد أن يرى الأدلة على بطلان فكرة أنَّ كل ما نطق به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحياً من الله، من أراد الإطِّلاع على المزيد بخصوص هذا الأمر، فالروابط التالية تحوي مقالات بالخصوص فيها الكثير من الأدلة التي تبطل هذا الزعم المتوارث.
https://www.know2plan.com/2020/01/blog-post_21.html
https://www.know2plan.com/2020/01/blog-post_22.html
وبالعودة لموضوعنا، وهو علاقة النبي عليه السلام بنا نحن وبكل الأجيال التي جاءت بعده إلى قيام الساعة، فإنَّ أول شيء نريد أن نتوقف عنده هو التفريق بين ما ورد كقصة رسول وبين ما ورد كتشريعٍ وأحكام. هناك فرق هائل وشاسع بين الأمرين. للأسف الخلط بين قصة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأحكام والتشريع هو أحد أهم أسباب انحراف فهمنا للدين وإلصاق الكثير والكثير من الأشياء بدين الله وشرعه ممَّا هو ليس منه.
كلنا نعرف أنَّ القرآن به الكثير من قصص الأنبياء والرسل، وأنَّ هذه القصص بها الكثير من العِبَر والعظات التي أراد الله لنا أن نكتشفها ونستشفها من كل قصة وسيرة وردت في كتابه العزيز، ولو سألت عمَّن هو الرسول أو النبي الذي تم التركيز على قصته بشكل أكبر في القرآن، فأتصور أنَّ الأغلبية ستجيب وبكل ثقة بالقول: "موسى عليه السلام". وبالفعل، تكررت قصة موسى في القرآن بتفاصيل مختلفة ومن زوايا مشاهدة مختلفة لنفس الموقف، قصة موسى عليه السلام من أكثر القصص التي وردت في القرآن لكنَّ المفاجئة هي أنَّها ليست القصة الأكثر ظهوراً.
النبي الذي ظهرت قصته بشكل أكبر في القرآن هو "محمد" صلى الله عليه وسلم، نعم، محمد بن عبد الله عليه السلام كان هو محور القصص القرآني، وزيَّنت قصته كل جوانب المصحف.
قد يستغرب البعض لأنَّ فكرة أن يكون القرآن قد تناول قصة نبينا محمد عليه السلام هي فكرة غريبة على أدمغتنا، فعندما نسمع مصطلح قصص الأنبياء في القرآن يخطر ببالنا كل الأنبياء إلا نبينا محمد عليه السلام، لا أعرف تماماً السبب وراء هذا الأمر، لكن ربما يكون الفهم التراثي القديم للقرآن هو مصدر الفكرة حيث أنَّ أغلب فقهاء السلف لا يتعاملون مع الآيات التي تذكر الأحداث التي دارت في حياة النبي وذكرها القرآن، لا يتعاملون معها على أنَّها قصة نبي، وإنما على أنَّها تشريعات وأحكام في فصلٍ منهم بين مسيرة الإنسان ما قبل بعثة نبينا محمد وما بعد بعثته وهو الأمر غير الصحيح. فالقرآن كان يؤكد دائماً على أنَّ نبينا محمد عليه السلام هو نبي مثل باقي الأنبياء وأنَّ البشر هم البشر قبل بعثته أو بعدها، فلا القرآن قال أي شيء صريح يجعل نبينا محمد عليه السلام مختلف عن باقي الأنبياء، ولا قال أنَّ البشر قبله صاروا مختلفين عن البشر بعده.
فلماذا فرَّقوا بين الأنبياء وجعلوا قصة سدينا محمد ليست قصة كباقي قصص الأنبياء؟ لا نعلم بالضبط، كل الذي نعلمه هو أنَّ القرآن يقول العكس تماماً، فسيدنا محمد مثله مثل باقي الأنبياء هو الأمر الوحيد الذي صرَّح به القرآن بشكل صريح ومباشر في قوله تعالى:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ)
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
آيات كثيرة مباشرة وصريحة تأمرنا وتأمر نبينا محمد نفسه بألا نفرِّق بينه وبين أي رسول أو نبي آخر. النبي نفسه مأمور بأن يقول للناس أنَّه لا فرق بينه وبين أي رسول آخر بشكل صريح ومباشر لا يحتاج حتى لتدبُّر ولا تفسير في قوله تعالى (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
فلماذا يفرِّق البعض بين سيدنا محمد عليه السلام وبين باقي الأنبياء والرسل؟؟؟؟
إنَّهم يخالفون صريح القرآن بشكل صريح ومباشر، حتى عندما قال الله عز وجل أنَّه هو ذاته يفضِّل بعض الرسل على بعضٍ في قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ)، كان هذا تصريح منه سبحانه بأنه هو ذاته ووحده الذي يُفضِّل بينهم, بينما نحن مأمورون بألَّا نفضِّل ولا نفرِّق. النبي ذاته مأمور بألا يفرِّق ولا يفضِّل نفسه على باقي الرسل بأمر مباشر صريح.
عموماً من لم يجد دليل غير الروايات التي تناقض صريح القرآن وأصر على التظاهر بالعمى، فله ذلك، وباقي كلامنا لا يعنيه. أمَّا من يخشى الله ويتقيه ويعلم أنَّ عقله محل التكليف ويرفض التقليد الأعمى والاتِّباع على عمى، فليواصل معنا لنكمل.
وبما أنَّ نبينا محمد عليه السلام مثله مثل باقي الأنبياء والرسل وأنَّنا أصلاً مأمورون بالإيمان بكل الرسل وبعدم التفريق بين رسولنا وبين باقي الرسل، فلا يوجد أي مبرر للتفريق بين قصص الأنبياء جميعاً وبين قصة سيدنا محمد عليه السلام.
و هنا نأتي للُب وجوهر موضوعنا اليوم، فعلاقة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بجيلنا نحن المسلمين اليوم هي علاقة رسول يحمل رسالة فقط لا غير. أي أنَّنا عندما نقرأ قصة رسولنا يجب أن نتذكر أنَّه كان أباً وصديقاً وابن عمٍ وقائداً سياسياً وعسكرياً وقاضي قضاة لمن عاصروه وعاشروه، لكنَّه لا يحمل أيٍ من هذه الصفات بالنسبة لنا. الصفة الوحيدة الباقية والعلاقة الوحيدة المتبقية بيننا وبين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة التي كلفه الله تعالى بتبليغها ثم حَفِظَهَا الله سبحانه في كتابه العزيز حتى وصلتنا قطعية الثبوت خاليةً من التحريف.
هناك عشرات آلاف الروايات المنسوبة للنبي يأمر بها بأوامر وينهى فيها عن منهيات، هذه الأوامر والنواهي ليس كلها تشريع ولا حلال ولا حرام، بل هي جزء من ممارسة النبي لدوره وتفاعله مع من عاصره وعاشره كقائد سياسي وكقائد عسكري وكقاضي القضاة. دوره عليه السلام كقائد سياسي وزعيم لأمَّتِه في حينه كان يتطلب منه أن يقوم بدوره ويضع تشريعات ويسن قوانين حسب الظروف والمحيط والزمان والمكان, و الذي يختلف بكل تأكيد عن زماننا و مكاننا.
لو كانت كل أوامر النبي ونواهيه التي وردتنا عن طريق كتب السيرة والأحاديث هي تشريع وجزء من الدين، لكان النبي أمرَ بتدوينها وحفظها كما يُحفظ القرآن لأنَّها حسب ظن البعض دين وشرع، وبالتالي هو مطلوب منه ومأمور بتبليغها لأنَّه مأمور بتبليغ كل الدين وليس بعض الدين. وإلا فإنَّه سيكون عليه السلام قد قصَّر في التبليغ. لكن حاشاه صلى الله عليه وسلم فهو قد بلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة على أكمل وجه. لكنَّ النبي عليه السلام لم يدوِّن أو يحفظ أقواله من غير القرآن، بل فعل العكس تماماً وهو أنَّه نهى نهياً باتاً نهائياً أن يكتب أصحابه ما ينطق من غير القرآن.
فنبينا عليه السلام يعلم و يعي تماماً بأنَّ ما في القرآن شرع وحلال وحرام ورسالة يجب أن تصل من ضمن مهمته كرسولٍ مبلِّغ. ولهذا أمر بتدوينه وحفظه أول بأول. و في نفس الوقت يعي تماماً و يعلم يقيناً أنَّ أقواله من غير الوحي هي خاصة بمن عاصروه و عاشروه لأنَّه قائداً سياسياً وعسكرياً و قاضياً بالنسبة لهم، لهذا لم يكتفي بعدم تدوين أقواله، بل أمر بعدم تدوينها وحفظها لكي لا يختلط أمره لمن عاصره بأمرِ الله للناس كافة في كتاب الله تعالى.
ويمكن رؤية الصورة بشكل أوضح, و ذلك بمعرفة و فهم حقيقة أنَّ أكبر قصة في القرآن هي قصة سيدنا محمد. السبب وراء أهمية التأكيد على هذه الحقيقة هو لأنها ستساعدنا بشكل كبير للخروج بفهم أفضل لكل الآيات التي تروي لنا الأحداث التي دارت في عهد نبينا محمد عليه السلام، وكل الخطابات التي دارت بينه وبين قومه، وبينه وبين أصحابه، وبينه وبين ربه سبحانه و تعالى. حينها سنكون أمام أمر يغير طريقة تدبرنا للقرآن ويجعلنا بالفعل نراها من زاوية جديدة غير الزاوية التراثية القديمة لفقهاء السلف. هذه الزاوية الجديدة ستفتح أعيننا على القرآن بعيوننا وليس بعيون غيرنا.
ولكي نكون عمليين سنقوم بطرح مثال على كيفية تدبُّر آية يستخدمها البعض على أنها تشريع، بينما هي في الحقيقة جزء من قصة الرسول رواها لنا الله عز وجل في القرآن. و قبل أن نقدم الآية نريد أن نقدم مثالاً فيه وضع مشابه لنبي آخر في القرآن، فالحوار الذي دار بين الله عز وجل و بين موسى أو قومه (بنو إسرائيل) هو جزء من قصص موسى عليه السلام في القرآن مثل قوله تعالى مخاطباً موسى (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) وهذا خطاب مباشر من الله لموسى، وهو جزء من قصة موسى في القرآن. وقوله تعالى لقوم موسى عليه السلام (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) هذه الآية, و مثيلاتها كثير من التي تخاطب بني إسرائيل, هي خطاب مباشر من الله جل في علاه لموسى وقوم موسى وهي ضمن قصص موسى عليه السلام في القرآن.
بنفس الطريقة، فهناك آيات خاطب الله بها نبينا محمد وآيات أخرى خاطب بها أصحابه وردت ضمن سياق قصص نبينا محمد عليه السلام. لنأخذ مثلاً قوله تعالى في سورة التوبة الآية 123 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
هنا آية جاءت ضمن قصة سيدنا محمد التي رواها الله لنا في القرآن بخطاب موجه للنبي و أصحابه والذي أمر فيه أصحاب النبي بأن يدافعوا عن أنفسهم و يحموا دولتهم من مساعي الدول المجاورة لهم للقضاء عليهم. فقد قص علينا ربنا جزء من قصة هذا الصراع بين دولة المسلمين الوليدة في حينه و بين الدول المجاورة لها. و هنا ربنا يقول لنا في سياق قصة ما حصل, أن الله أمر جماعة المؤمنين بأن يقاتلوا من جاورهم من الدول الساعية للفتك بهم وأن يعاملوهم بغلظة لأننا كلنا نعرف أنَّ الأمم التي جاورت دولة الإسلام زمن السنوات الأخيرة من حياة النبي كانت تعتدي عليهم وتحاربهم وتمارس ضدهم كل أنواع التآمر والإرهاب، فكان يجب أن يدافع النبي وأصحابه عن هيبة دولتهم الوليدة و يحفظوا أمنها، وإلا استهانت بهم تلك الأمم المجاورة و قضت عليهم.
هذه الآية هي أحد أهم وأفضل وأوضح الأمثلة التي تبيِّن ما نقصده بأنَّ أحد أهم قواعد تدبُّر القرآن ألا ننسى أنَّ معظم القرآن يحكي قصة نبينا محمد عليه السلام. و تساعدنا أيضاً على فهم علاقة جيلنا الحالي بالنبي صلى الله عليه و سلم بشكل أفضل.
دعونا الآن نعود للآية، ففي بداية الآية نجد الخطاب موجه بالقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي أننا الآن أمام فهمين وطريقتين للتدبر كالتالي:
.
الفهم الأول: إمَّا أن يكون الخطاب هو من ضمن قصة النبي في القرآن وربنا عز وجل يحكي لنا القصة والتي من ضمنها ما نقله الله لنا من خطابات وجهها سبحانه لطائفة المؤمنين من أصحاب نبيه محمد، وفي هذه الحالة سيكون هذا سرد قصصي لأحداث وخطابات دارت بين الله جل في علاه، وبين أصحاب نبيه محمد عليه السلام كتلك الخطابات التي دارت بين الله وبين قوم موسى (بني إسرائيل) والتي أوردنا مثالاً عليها أعلاه، وبهذه الطريقة سنفهم أننا لسنا أمام تشريع إلهي ولا أمر رباني يأمرنا فيه بمحاربة كل الأمم والشعوب المجاورة التي ليست مؤمنة مثلنا، وأنَّ كل ما في الأمر هو أنَّ الله حكى لنا ما حصل بين المسلمين في عهد النبي، وبين الأمم المجاورة ومن ضمن القصة كان هذا الخطاب من الله لأصحاب النبي في هذه الآية. أي أنه لا يوجد أي تشريع هنا و إنما مجرد سرد قصصي.
.
الفهم الثاني: و إمَّا أن نأخذ الآية على أنَّها تشريع إلهي مخاطب به كل
المؤمنين في كل زمان ومكان متحججين بورود جملة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
في بداية الآية. فهذا يعني أنَّه يجب أن نلتزم بهذا الأمر الإلهي وننفذه على الفور
دون إبطاء، مما يعني أنَّ داعش وأخواتها من جماعات التشدد المتطرفة كانوا على حق
وأننا نحن المعارضون لهم متخاذلين مُعرضين عن أمر الله. إذا كان كل خطاب قرآني
يبدأ بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو تشريع وليس جزء من قصة، فهذا يعني أنَّ
هذه الآية لن تكون استثناء، وعليه، و بناءً على هذا الفهم، فنحن بالفعل يجب أن
نحمل السلاح ونبدأ بغزو ومحاربة كل الشعوب المجاورة لنا، وكلما هزمنا شعب وأدخلناه
تحت حكمنا، صار لزاماً علينا غزو الشعب المجاور لذلك الشعب لأنَّهم الآن أصبحوا
مجاورين لنا، وهكذا دواليك حتى نغزو كوكب الأرض كله.
أي بمعنى آخر نحن مأمورون بأمر إلهي صريح موجه لنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أن نغزو كل شعوب الأرض الغير مؤمنة (الكفار) وأن ندخلهم تحت حكمنا أو يؤمنوا! بصراحة، لا أريد أن أضيع الوقت للرد على من يتصور أنَّ هذا ما تعنيه الآية احتراماً لوقت المتابعين الأكارم، فالمقال صار أطول من اللازم، لكن أحب أن أقول لكل من يعتقد أنَّ هذا الخطاب موجه لكل المؤمنين في كل زمان ومكان و أنه تشريع وليس جزء من قصة النبي، أحب أن أبشره بأنَّ هناك داعشياً صغيراً يعيش في رأسه قد يكبر يوماً ما.
.
الخلاصة، من خلال المثال الذي قدمناه تبيّن لنا أنَّه من المهم أن نعرف أنَّ الكثير من الخطابات القرآنية الموجهة للنبي وأصحابه هي في معظمها قصص وليست تشريعات ملزمة مثل الآية التي أوردناها في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
.
وللتمييز بين ما هو تشريع وما هو قصة، يجب أن نطبِّق قواعد منهجية فِهم وتدبُّر القرآن لكي نخرج بفهم وتدبُّر سليم، فالآية التي استخدمناها هنا من الواضح أنَّها جزء من قصة وليست تشريع، لأنَّنا لو فسَّرناها على أنها تشريع، فهذا سيجعلنا نخرج بمعنى يتعارض مع كليات القرآن وخطوطه العريضة، حيث أننا فهمنا من القاعدة الرابعة التي ناقشناها من قبل في سلسلة قواعد منهجية تدبر القرآن, أنَّ للقرآن كليات وخطوط عريضة هي ما يحدد لنا المعنى الممكن والصحيح في نفس الوقت. لأنه قد يكون هناك معنى ممكن ولكنَّه غير صحيح. فالمعنى الممكن قد يجعل القرآن يتناقض بعضه مع بعض. ففهم الآية في مثالنا هنا على أنها تشريع يتعارض مع أحد الخطوط العريضة للقرآن، والتي هي حرية العقيدة والتعايش السِلمي بين الناس على الأرض.
لهذا ولأنَّ المعنى إذا صرفناه على وجه التشريع قد يكون ممكن، إلا أنَّه غير صحيح لأنه يتعارض مع كليات القرآن وخطوطه العريضة. فكنتيجة، سيكون الخطاب هو جزء من قصة النبي رواها لنا الله في القرآن، و الذي بدوره سيعني أنه ليس تشريع.
.
نأسف على الإطالة، لكنَّ الأمر ما كان يمكن أن نتناوله على عجل لأهميته، ولأنه متشابك وشائك. فالغالبية العظمى من المسلمين عندما يمرون على أي خطاب قرآني يبدأ ب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، مباشرة ستقفز أذهانهم إلى فكرة أنهم أمام تشريع في حين أنَّ هناك أوقات كثيرة يأتي فيها الخطاب على سبيل القصص وليس التشريع.
والخلاصة هي أن نفهم أنَّ علاقة النبي بنا نحن جيل الأحياء اليوم من الذين لم يعاصروا ولم يعاشروا رسولنا الكريم عليه السلام، هذه العلاقة هي أنَّه بالنسبة لنا يكون رسول مبلِّغ، ما يعني أنَّ شرع الله و دينه هو محصور فقط فيما بلّغه النبي كرسول مبلِّغ. و هذه الصفة لا تتوفر إلا في القرآن الذي بالفعل أمر النبي بتدوينه وحِفظه وحَفَظه الله لنا. أمَّا باقي الأشياء مثل ما ورد في كتب السيرة والأحاديث والفقه، فهي اجتهادات كل أهل زمانٍ فيما يخص زمانهم وليس شرعاً مبلغاً لأنَّ النبي لم يبلّغ أي شيء منها. بل على العكس أمر بألَّا يكتبها أحد ولا ينقلها أحد لعلمه عليه الصلاة والسلام بأنَّ أقواله من غير الوحي لا تخص إلا من عاصره وعاشره.
.
بهذا نكون قد وصلنا لنهاية مقالنا. وأعتذر عن انقطاعنا لفترة، فمشورنا لم يتوقف، وإنما أخذ تواصلنا لفهم وتدارس طريق #السعادة أشكالاً جديدة غير الكتابة.
أدامكم الله سعداء... فتابعونا.