التفاعل مع تعليقات مقالي هل كل كلام النبي الذي نطق به وحي

التفاعل مع تعليقات مقالي: هل كل كلام النبي الذي نطق به وحي
في هذا المقال سنقوم بإذن الله بالتفاعل مع التعليقات والأسئلة التي وردت في المقال المختصر والمقال المفُصَّل الذيِّن تناولا موضوع هل كل كلام النبي وحي أم لا. وكالمعتاد سيكون التفاعل من خلال عدة نقاط كالتالي:


النقطة الأولى:
 ينقسم المعترضون على قولنا بأنَّ كلام النبي في غير القرآن هو ليس وحي، ينقسم هؤلاء لقسمين:
القسم الأول: يرى أنَّ كلام النبي كله وحي وبالتالي كل رواية وردت عن النبي وتكلم فيها النبي، كلها وحي.
وبالطبع كلام هؤلاء باطل ديناً وعقلاً ومنطقاً. فحسب كلامهم سيكون النبي قد تحول من بشر له نفس بشرية يُعبِّر عن نفسه وعن مشاعره، ويتواصل مع باقي البشر بلسانه إلى إنسان لا إرادة له ولا يستطيع التواصل مع من حوله بشخصه فالله يوحي له كل ما ينطق به. هم بهذا حولوه عليه السلام من إنسان، إلى رجل آلي لا يملك أن ينطق حرف يُعبر به عن نفسه البشرية، فلسانه صار محتل ولا يخرج من فمه إلا وحي إلهي.
وقد قدَّمنا في المقال أمثلة وأدلة تبيِّن أنَّ هذا ضرب من الخيال وتقديس للنبي ووضعه موضع الإله المتجسد في جسد آدمي. ما الفرق بين ما يقوله المسيحيون من أنَّ الله تجسد في جسد عيسى عليه السلام، وبين السلفيين الذين يدعون أنَّ الله قد حل في لسان نبينا محمد عليه السلام فلا ينطق إلا بما يوحيه الله سبحانه؟ تعالى الله عن هذا علواً كبيراً. هؤلاء نزعوا عن عيسى عليه السلام صفة البشرية، وأولئك نزعوا عن نبينا محمد صفته البشرية أيضاً.
عموماً رأي هذا القسم غير صحيح بالمطلق لأنَّ القرآن نفسه يكذِّبه، والروايات نفسها تكذِّبه، ومعظم ما قد قدَّمناه في المقالين السابقين من أمثلة توضح بطلان ما يدعيه هذا الفريق. ولمن أراد الاطلاع على الأمثلة يمكنه الرجوع للمقالين إمَّا هنا في هذه الصفحة أو في مدونتها.

القسم الثاني: يرى هذا القسم من المعترضين على ما جاء في المقال أنَّ كلام النبي ليس كله وحي، وإنما كل كلامه في الدين وحي. أي أنَّهم يرون أنَّ هناك وحيان، وحي القرآن ووحي يسمونه "وحي السُّنة". هذا القسم بطبيعة الحال أدرك أنَّ فكرة أنَّ كل ما ينطق به النبي هو وحي هي فكرة سخيفة لا تصمد أمام الروايات نفسها فضلاً عن القرآن أو المنطق، فقرروا النأي بأنفسهم عن فكرة سخيفة كهذه، وقالوا أنَّ ما ورد في الأحاديث وحي وما عداها ليس وحي. وهذا القسم هدفه فقط أن ينزل الروايات منزلة القرآن فيعتقد عامة الناس أنَّ كل ما جاء في الروايات هو وحي مكمل للقرآن وشارح له، وكأنَّ القرآن ناقص أو غير مفصَّل. وهم أيضاً قد جانبهم الصواب لأنهم يسيئون لله إساءة ليست أقل من إساءة القسم الأول. فالقسم الأول جعل كل حرف نطقه النبي عليه السلام وحي من الله فلم يفترقوا عن أهل الكتاب الذين نزعوا صفة البشرية عن عيسى عليه السلام، بينما إساءة القسم الثاني لله جل في علاه كانت متمثلة في تصوير الله جل في علاه، وكأنه لم يفي بوعده بحفظ الدين لأنَّ الروايات لم تحفظ مثل ما حفظ الله القرآن فصار 99% مما في البخاري ومسلم وكل كتب الحديث والروايات، عشرات آلاف الروايات في كل كتب الحديث وصلت بشكل ظني من آحاد يروون عن آحاد بعد انقطاع دام لقرون بين أحداث الروايات وزمن حدوثها، وبين الزمن التي دُوِّنت فيه.

أصحاب هذه الإدعاء أمام أمرين أحلاهما يسيء لله عز وجل ولرسوله أيضاً:
إما أن يدَّعوا أنَّ الروايات كلها قطعية الثبوت مثلها مثل قطعية القرآن؛ وبالتالي كأنهم يقولون أنَّ كل رواية من عشرات آلاف الروايات التي وردت قد قالها النبي يقيناً كما نعلم يقيناً أنَّ آيات القرآن الـ 6236 كلها كلام الله جل في علاه يقيناً. وهم بذلك يكونون قد كذبوا على رسول الله ونسبوا إليه أقوال يقيناً أنَّه قالها، في حين أنَّه لا البخاري ولا مسلم ولا أي أحد من جامعي الروايات ادَّعى أصلاً أنَّ ما جمعه قد صدر يقيناً عن رسول الله عليه السلام. كلهم يعرفون أنَّ رواياته ظنية الثبوت ويقولون أنَّها ظنية الثبوت.
وبما أنهم يرون أنَّ الأحاديث التي قالها النبي هي وحي من الله عز وجل، فهم بذلك قد وقعوا في الإساءة العظيمة لله إذ قالوا على الله بغير الحق ونسبوا لله وحياً هو بريء منه. وقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله و يقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
وإمَّا أن يقرُّوا بالحقيقة التي اقرَّها البخاري ومسلم وكل من كَتب كُتب الحديث، ويقولوا أنها ظنية الثبوت. ولكن في نفس الوقت يصرُّون على أنها وحي من الله تعالى، فحينها سيكونون قد جعلوها جزء من الدين لا يكتمل الدين "الناقص" إلا بها. وبما أنها ظنية لا تثبت يقيناً، فكأنما يقولون أنَّ الدين يؤخذ بالظن والله يقول (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)، وبالتالي كأنهم يقولون أنَّ الدين ليس حق لأنه مبني على الظن. وبما أنَّ الله يحاسب على الدين، فهم أيضاً يُسيئون لله بجعلهم له ظالماً يحاسب بالظن. سبحانه و تعالى عن هذا علواً كبيراً.

النقطة الثانية:
هناك آيات كثيرة جداً لم نتطرق لها في المقالين المختصر والمُفصَّل تحسم الأمر وسوف نسرد بعضاً منها هنا. فحتى كلام النبي في الحلال والحرام ليس وحياً لأنَّ النبي بشر يجتهد، يصيب، ويخطأ، وهو ليس معصوم.
ومن يقول أنَّ النبي معصوم عن الخطأ ما عليه إلا أن يمسك مقص و يذهب لأقرب مصحف ويقص منه الآيات التي عاتب فيها الله نبينا عليه السلام لمَّا ارتكب بعض الأخطاء. ولكي لا يتعب صاحبنا والمقص في يده، فسنساعده بتحديد بعض الآيات التي تحتاج للقص كي يصل إليها بسرعة:
فليذهب لسورة التوبة الآية 43 التي قال فيها ربنا عز و جل (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) وليذهب لقوله تعالى في سورة التحريم من الآية 1 (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
و ليذهب لقوله تعالى في سورة عبس من الآية 1 إلى الآية 10 (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ (8) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ)
وهناك غيرها من الآيات التي عاتب الله جل في علاه فيها النبي على أخطاء ارتكبها وما على من يدعي عصمة النبي وأنَّه معصوم عن الخطأ، ما عليه إلا أن يلغي هذه الآيات من القرآن كي يصبح قوله وادعائه صحيح.


وبالعودة لموضوعنا، فالنبي يجتهد اجتهاد البشر في الدين ويخطأ ويصيب. قد يستغرب البعض من هذا الكلام، لكنَّ النبي بالفعل يجتهد في الدين كبشر، ولذلك، يخطأ ويصيب.
وهذا ليس كلامي بل هذا ما قاله الله عز وجل في القرآن إن كنتم تؤمنون بالقرآن، وإليكم أمثلة على أنَّ النبي اجتهد في أمر ديني وأخطأ فيه:
المثال الأول: هل هناك أمر ديني أكبر من الدعوة للدين نفسها؟ 
بالتأكيد الدعوة للدين هي عمل ديني خالص تؤجر عليه وتثاب الأجر العظيم من الله عز وجل. ولذلك، وضع الله للدعوة للدين قواعد وآداب في قوله تعالى (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وهو الأمر الديني الذي خالفه النبي في قصة "عبس و تولى"، ولا يقلل أحد من شأن الأمر بالقول أنه عبس في وجه أعمى، فالنبي عليه السلام لم يعبس فقط، بل تولى أيضاً ولهذا قال الله جل في علاه (عَبَسَ( ... وَ ... (تَوَلَّى) .... فما فعله النبي كان مخالف للقواعد التي وضعها الله للدعوة لدينه. ولذلك هو اجتهد في الدين بتفضيله دعوة كبراء قريش على دعوة الرجل الأعمى الذي جاءه ساعياً.


المثال الثاني: الكل يعرف أنَّ الدفاع عن الدين ضد من يحارب الدين هو أمر ديني، وبل من أعلى وأهم الأمور. وفي معركة تبوك اجتهد النبي بمنح المنافقين الإذن للتخلف عن القيام بالواجب الديني عندما طلبوا منه القعود وعدم الانضمام لجيش المسلمين. هذا أمر ديني بحت لا يشكك في دينيته إنسان عاقل، ولكنَّ النبي اجتهد في هذا الأمر الديني وأخطاء ولهذا عاتبه الله على خطئه بقوله (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ).  فهو بإذنه لهم بالقعود أباح لهم محرم ما كان ليبيحه لهم. هذا بالطبع ليس من عندي وإنما بنص القرآن.


المثال الثالث: الزواج والطلاق ونكاح النساء هي أمور دينية وضع القرآن لها قواعد، فلا أظن أنَّ أحداً يقول بأنها ليست أمور دينية. والنبي قد اجتهد و أخطاء بأن حرّم على نفسه حلالاً فعاتبه الله على أخطائه هذا وقال له (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
الآية صريحة مباشرة لا تحتاج حتى لكثرة شرح وتوضيح. النبي اجتهد في أمر ديني فحرم ما أحل الله فجاءه الوحي معاتباً "لما يا محمد تحرم ما أحليت". لن أزيد حرفاً لشرح هذه الآية من شدة وضوحها
وبعد تقديم هذه الأمثلة يتبيَّن أنَّ النبي فعلاً بشر يجتهد ويخطأ و صيب في كل شيء سواء كان أمر ديني أو غير ديني. وهو ليس معصوم إلا في تبليغ رسالة القرآن والتي بالفعل حفظها الله بأن جعل نبيه معصوماً في نقلها. و بما أنَّ النبي بشر يصيب و يخطأ في غير تبليغ القرآن، فلا يمكن بحال من الأحوال أن ندَّعي بأنَّ كلام النبي من غير القرآن وحي. كل ما قاله النبي من كلام غير القرآن في أي شأن هو كلام بشر وليس وحي؛ لأنَّ الوحي مصدره السميع العليم، ولا يصدر عن السميع العليم أخطاء البشر. سبحانه وتعالى عن هذا علواً كبيراً.


وفي الختام أحب أن أنبِّه المتسرعين بأننا لا نقول اتركوا السنة، لا نقول ارموا الروايات، لا نطعن في مقام النبي عليه السلام. كل ما فعلناه ونفعله في هذه المرحلة هو تقديم الحقائق وتعريف كل شيء بشكل دقيق لنستطيع لاحقاً وضع الأمور في نصابها وإعطاء كل شيء قدره. نحن أصلاً لا نستغني عن السنة ونعمل بها كل اليوم، لكن هي السنة العملية وليست القولية، فلا يوجد على الإطلاق من صلى أو صام وحج بالروايات. نحن لا يمكن أن نتخلص من الروايات لأنها تساعدنا على فهم بعض الأمور وتوضيحها ولكن نضعها موضع الظن لا نبني عليها أساسات أو نهدم بها بناء. 


إننا نؤمن بعظمة مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنَّه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكننا نعرف أنَّه بشر كما ذكَّرَنا ربنا في القرآن ببشريته مراراً وتكراراً. نحن نريد تصحيح المفاهيم التي شوهها التمذهب والتفرق في فِرَق وجماعات. نريد أن نزيل ما ألصقه سلاطين متسلطين مروا على الإسلام وأزادوا وأنقصوا في الدين حسب مصالحهم لكي يحتفظوا بعروشهم.


نحن في مشوار تغيير.. مسيرة.. طريق #السعادة التي ستدوم بإذن الله ما دمنا نعقل ونرتقي ولا نقلد ونسكن. لدينا الكثير لنعمل عليه ونطوره معاً.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة