توضيح طريقة وصول المرويات لنا (المقال المختصر)

توضيح طريقة وصول المرويات لنا (المقال المختصر)

اليوم بعون الله ومشيئته سنبدأ في سلسلة مقالاتنا التي تهتم بوضع منهجية للتعامل مع ما وصلنا من روايات وآراء فقهاء السلف. ولأنَّ الأمر معقد و شائك؛ أرجو أن يتحملني المتابعات الفضليات والمتابعين الأفاضل لأنني مضطر اضطراراً للتكرار والإطناب؛ لأنَّ حجم التشويش سيكون كبير من المعترضين.

لهذا السبب وأيضاً لأنَّ هناك الكثير من "المسلَّمات" الغير صحيحة في ذهنية العقل المسلم، فسوف نحتاج لتبسيط الأمور بشكل كبير قد نحتاج معه للتكرار والإطناب. فللأسف عامة المسلمين من الصعب عليهم قبول بعض الأفكار لعمق نقيضها في عقولهم الباطنة التي تم تلقينها منذ الطفولة.
هذه مجرد تنبيهات لأن ما نحن مقبلون عليه هو عمل صعب.

اليوم سنقدم المقال المختصر بخصوص مسألة مهمة وهي مسألة طريقة وصول الروايات وآراء الأولين وأقوالهم. 
في هذا الصدد، فإنَّ الغالبية العظمى من المسلمين لا يعرفون أكثر الحقائق المتعلقة بطريقة وصول الأحاديث والروايات والتي سنلخصها في النقاط التالية:
أ) فيما يخص الأحاديث التي تُروى عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهي مروية كلها على بكرة أبيها بسند. هذا السند هو عبارة عن شخص حي يروي حديث سمعه عن شخص ميّت زمن كان من الأحياء. هذا الميّت سمع الرواية من ميِّت زمن كان كلاهما من الأحياء، وذاك الميت سمع من ميت وهكذا دواليك. أي أن أي حديث هو عبارة عن شخص حي ذكر روايته عن سلسلة من الأموات حتى وصل لأحد أصحاب النبي الذي روى الحديث عن النبي زمن حياتهما.

ب) لا يوجد أي كتاب كتبه أحد أصحاب النبي دوَن فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يوجد على الإطلاق. 
حتى من يدَّعي بوجود كتاب لأحد أصحاب النبي كتب فيه أحاديث النبي، أي أن الجيل الأول كله مات دون أن يترك ولو كتاب واحد وصل للجيل الثاني.
لا يوجد في الأولين ولا في الآخرين حتى من يدعي أن أي من أصحاب النبي ترك كتاباً للحديث وصل إليه الناس من بعده. وهذا يتسق مع، ويفسر حقيقة أنَّ كل الروايات بأسانيد لسلسلة من الرواة لا تقل عن ثلاثة لعدم وجود أي تدوين من الجيل الأول.

ج) منع النبي أصحابه من كتابة أحاديثه. هذا المنع لا يثبت عندي بالرواية (وإن كانت حجة على من يأخذون بالروايات)، وإنما يثبت عندي بالواقع الماثل أمامنا. فالواقع الذي أمامنا ليس فيه أي كتاب لأي من أصحاب النبي دوّن فيه أحاديثه، بالإضافة لحقيقة أنَّ كل الأحاديث (كلها على بكرة أبيها) لها سلسلة سند بها مجموعة من الرواة ما يعني أنه بالفعل لم يكن ولا يوجد أي كتاب حديث كتبه أصحاب النبي والذين يمثلون الجيل الأول.

د) أصحاب النبي والذين يمثلون الجيل الأول، لم يكونوا عاجزين عن تدوين الأحاديث لأسباب تقنية كقلة خبرة أو عدم قدرة، فهم أثبتوا أن لديهم قدرة عظيمة على الجمع والتدوين.
لقد تجلت قدرة جيل أصحاب النبي على الجمع التدوين والكتابة في أن هذا الجيل لم يمت وينتهي إلا بعد أن قام بعمل رائع تم من خلاله جمع وتدوين القرآن، مما يعني أنهم لا يعرفون الجمع والتدوين فقط، وبل مبدعون في القيام بهما. 
وكخلاصة،  فالجيل الأول يعرف كيف يكون الجمع و التدوين، إلا أنهم لم يدونوا شيء من حديث رسول الله، مما يعزز فكرة الرواية التي تقول أن النبي نهى بالفعل أصحابه عن كتابة حديثه.

هـ) أول محاولة لتدوين الحديث حصلت تقريباً بعد مائة عام من وفاة النبي، أما أهم وأكثر كتب الحديث شيوعاً، فقد تم كتابتها بعد حوالي مائتي عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. هذه المعلومة بالذات لا يعرفها كثير من عامة المسلمين ولا يعرفون أنَّ الغالبية العظمى من الأحاديث النبوية التي يسمعونها ويعرفونها ويقرأونها تمت كتابتها بعد قرون من وفاة النبي. أي أنَّ الانقطاع بين قول النبي لأحاديثه وبين تدوينها في كتب يصل لفترة زمنية ما بين مائتي إلى مائتي وخمسون سنة بعد وفاة النبي.

و) ما يسمونه العصر الذهبي لتدوين الحديث، كان أسوء فترة مرت على المسلمين من ناحية اختلاق الأحاديث وتأليفها ونسبها لرسول الله كذباً عليه.
فعصر البخاري ومسلم وكل أصحاب الكتب الستة، كان يعج بالأحاديث المكذوبة على رسول الله، لدرجة أنَّ البخاري نفسه كتب في مقدمة كتابه أشياء نستشف منها أنه من بين كل 100 حديث متداول في حينه لا يمكن الوثوق في 99 منها.
ولو حسبنا الأمر بدقة أكثر، فإنَّ نسبة ما يمكن الوثوق به من الأحاديث في ذلك العصر كانت أقل من %0.5. فالبخاري قد دون فقط ما يقارب الـ 6,000 حديث من بين 600,000 علم بهم، ونصف ما دونه تقريباً كان مكرر بين أبواب كتابه. تخيلوا أن كل 100 حديث منتشر في عصر التدوين كان من الصعب الوثوق في 99 منه.

ز) آلية جمع الحديث وتدوينه كانت بدائية وبسيطة جداً عكس ما يتصور عامة المسلمين بأنها كانت عملية علمية معقدة. فهي ببساطة تتلخص في أن يسافر جامع الحديث لشهر أو اثنين، أو ربما عدة أشهر حسب بُعد المكان، على ظهور الجمال ليلتقي بمن قيل أنه يحفظ حديث منسوب لرسول الله. 
فمثلاً يذهب البخاري لبلد ما لا يعيش فيه البخاري نفسه ولم يختلط بأهله، يلتقي براوي الحديث الذي لم يلتقي به قط في حياته من قبل، يسأل أهل البلد الذي سافر إليه والذين لا يعرفهم البخاري أيضاً, يسألهم عن الراوي ورأيهم فيه، فإن ارتاح قلبه لما سمعه عن الراوي ولمن سمع منهم عنه، دوَّن الحديث، وإلا تركه.

ولصعوبة الوثوق بغرباء لا يعرفهم، فقد ترك البخاري 99 حديثاً من بين كل  مائة حديث قد سمعه؛ لأنَّ البخاري أو غيره ليس فقط يحتاج لأن يرتاح قلبه ويثق في صاحب الرواية، وإنما يحتاج للثقة والارتياح لشهادة الآخرين الذين يعرفون الراوي ويعرفون مدى صدقه وأمانته وقدرته على الحفظ.

الخلاصة هي أنَّ كل النقاط أعلاه تشرح السبب وراء أنَّ كل فقهاء السلف والخلف بدون استثناء يعتبرون روايات الأحاديث كلها حديثاً حديثاً على بكرة أبيها ظنية الثبوت. وظنية الثبوت تعني أنه كل الأحاديث حتى التي يضعونها تحت تصنيف صحيحة، يُظن أنَّ النبي قالها. أي أنه لا البخاري ولا مسلم ولا الترمذي ولا أي فقيه من فقهاء السلف والخلف يجزم بأنَّ ألنبي بالفعل قد قال الحديث. هذا ليس كلامي، بل كلام كل فقهاء السلف والخلف يضعون الأحاديث كلها تحت وصف ظنِّي الثبوت أي أنه يُظن بأنَّ النبي قاله.

نكتفي بهذا القدر في مقالنا المختصر اليوم على أن نعود غداً بإذن الله بمقال مفصَّل نتناول النقاط أعلاه بمزيد من التوضيح والمناقشة، لذا نرجو عدم التعجل في إصدار الأحكام لأنَّ الأمر يحتاج لمزيد من التوضيح في المقال المُفصَّل. والأهم هو أننا لم نقل شيء بخصوص أخذ شيء أو ترك شيء، نحن فقط في مرحلة جمع المعلومات لنضع قواعد لمنهجية التعامل مع الروايات.

النقطة الأخيرة المهمة هي أنَّ النقاط المذكورة أعلاه من النقطة (أ) إلى النقطة (ز) هي حقائق ثابتة و ليست آراء، ومن يستطيع أن يثبت عكس ذلك فليتفضل.
ودمتم في #سعادة.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة