هل المرأة نصف الرجل أم هي ثقافة ألصقوها بالدين (المقال المختصر)

هل المرأة نصف الرجل أم هي ثقافة ألصقوها بالدين (المقال المختصَر(

اليوم بعون الله سنستمر في مشوارنا في استخدام قواعد منهجية تدبُّر القرآن السبع سأتناول مسألة يعتبرها اتباع التراث والتقليد الأعمى من أسس الدين وهي في كتاب الله غير ذلك بالكلية. 

النص القرآني الذي سنتناوله اليوم يعتبر مثال جيد للقواعد السبع خاصة القاعدة السادسة والسابعة والثانية والثالثة.

مسألة اليوم هي فهم وتدبُّر نص قرآني جاء ضمن أطول آية في القرآن الكريم وهي قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الكل يعرف أنَّ هذا النص يشكل عند فقهاء التراث ومن يقلدهم اليوم مسألة تشريعية محسومة لا جدال فيها، وأنه يجب علينا أن نقول سمعاً وطاعةً للفقهاء دون بحث أو تدقيق. ففي شريعة المقلدين لا يجوز استخدام العقل في الدين، على العموم من أشهر القضايا التي تم إساءة فهمها هي موضوع شهادة "رجل و امرأتان". فبتعميم هذه الحالة الخاصة جداً، صارت الآية تُستخدم لاتهام النساء بأنهن ناقصات عقل، وأنه لا يحق لهن الشهادة، وأنها نصف الرجل وكل ما سُوق له ضمن الفهم التراثي الذكوري والذي تم إلصاقه للأسف بدين الله وهو سبحانه وتعالى منه براء.

المهم لا أريد أن أطنب في توصيف اللامنطق في تفكير المقلدين المتمسكين بما وجدوا عليه آبائهم، ودعونا ندخل على الآية كاملة، فقد قال الله تعالى في سورة البقرة الآية 282: 
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

سأناقش الأمر عن طريق توضيحه في نقاط كالتالي:

النقطة الأولى:
الآية تتحدث عن كتابة الدين وتقترح جميع الطرق لحفظ الحقوق عند التداين، وتشجع طرفي الاستدانة على تدوينه. فالآية لا تضع عقوبة ولا حتى تتوعد من لا يأخذ بالنصيحة بكتابة الدين بأي عقوبة. والغالبية العظمى من عمليات التداين لا يتبع أصحابها هذه النصيحة ابتعاداً عن تعقيد الأمور خاصة في حالات الثقة المتبادلة. ففي كثير من الأحيان يستدين منك صديق أو جار أو قريب أو حتى من لا تعرفه مبلغ عشر جنيهات أو 20 جنيهاً، ويعدك بردَّها ولا تجد نفسك مضطر لكتابة هذا الدين لصغر المبلغ مع أنَّ الآية لم تضع حد أدنى ولا أعلى للكتابة والإشهاد، وبل شجعت على الكتابة والإشهاد مهما كان الدين صغير. 

ما أريد قوله هو أنَّ الحكمة من كامل الآية هي إيجاد طريقة لحفظ الحقوق بغض النظر عن التفاصيل والتي كانت تتحدث عن الحد الأدنى الذي كان يخاطب الواقع في جزيرة العرب في ذلك الوقت. أي أنه، و بما أنَّ الكتابة غير مُلْزِمة، فلا شك أنَّ التفاصيل نفسها غير ملزمة ومتروكة لكل أهل زمان ومكان لتحديد ما يحتاجونه لضمان حفظ حقوق الأطراف الداخلة في عملية تداين.


النقطة الثانية:
وهنا نأتي للنقطة الأهم وربما الحاسمة. فبالبناء على النقطة السابقة، يمكن القول أنَّ هذه التفاصيل تخص أهل ذلك الزمان فقط. فكما تبين لنا من النقطة السابقة، فإنَّ الآية كلها عبارة عن توصيات غير ملزمة بكتابة أي عملية تداين والإشهاد عليها، ما يعني أنَّ التفاصيل نفسها غير ملزمة، وبما أنَّ الآية تخاطب المؤمنين في كل زمان حسب ظاهرها، إلا أنَّ تفاصيلها تدل على أنها تخاطب الناس زمن نزول الآية. فالآية تحدثت عن رجلين ولكن ليس هناك مانع من أن يكونوا 3 أو حتى 100. ماذا لو استشهدنا 5 رجال بدل اثنين، أليس هذا مخالف لنص الآية التي قالت صراحة استشهدوا رجلين؟ بالطبع يمكن أن نُشهد حتى 100 رجل فالتفاصيل المقدمة في الآية هي توصيات غير إلزامية والملزم الوحيد هو اتخاذ ما يلزم لحفظ الحقوق. وكذلك تتحدث الآية عن امرأتان، وبالتأكيد لا مانع من أن يكن مجموعة من النساء. وكذلك كتابة الدين اليوم تتطلب إجراءات أكثر تعقيداً وأختام ومحاميين وشهود ومحكمة وتعقيدات أخرى إضافية. التعقيد يعود لتراكم المعرفة ولتطور الحياة بشكل كبير، فهي لم تعد تلك الحياة البدائية البسيطة التي كان يعيشها الناس وقت نزول القرآن. وبالتالي نستنتج من هذا وبكل سهولة أنَّ الإجراءات التي وردت في هذه الآية ما هي إلا الحد الأدنى من عملية كتابة الدين والإشهاد عليه. فمن الواضح أنَّ إشهاد رجل واحد يعتبر أمر غير كافي لتحقيق الهدف، بينما إشهاد 100 رجل بكل تأكيد يعتبر أكثر ضمانة من إشهاد رجلين كما قالت الآية، أي أنَّ الآية تقدم الحد الأدنى فقط ولا تقدِّم تفاصيل ملزمة.

 والحد الأدنى هنا ليس مرتبط بالإجراءات فقط، وإنما مرتبط بأدنى عقلية وأدنى مستوى إنساني تخاطبه الآية. فبطبيعة المعرفة والقيم المتراكمة عبر الزمان، فإنَّ الحد الأدنى من المستوى الإنساني المخاطب بالآية هم أهل زمان النزول لأنَّ كل من يأتي بعدهم سيكون أفضل منهم علمياً وقيمياً بفعل التراكم. ولهذا فالتفاصيل لابد أن تناسبهم ولا تتجاوزهم لأنَّ الله لن يكلفهم فوق طاقتهم وفوق المستوى المعرفي والقيمي الذي وصلوا إليه ولأنهم هم الحد الأدنى. وهنا نصل لقرينة تثبت ما أرمي إليه. فالله عندما قال ( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) وهنا ذكر الله الحالات التي يكون من عليه الحق ضعيف أو مريض مرض عقلي يجعله بحاجة لوصي يدبر له أموره. وهنا تكمن القرينة. فضعف الذي عليه الحق لم يعني أنه ناقص الإنسانية، وإنما تحيط به ظروف فرضت عليه حالة الضعف التي لا يمكن أن يكون فيها قيّماً على نفسه ويحتاج معها لولي ووصي. الضعف الاجتماعي أو الضعف العقلي لا يجعل من هذا الإنسان ناقص في إنسانيته ولا هي نقيصة فيه، فقد يتغير الوضع وتتبدل الأحوال ويصبح الضعيف قوياً والقوي ضعيفاً ويُشفى المريض أو يعقل من كان في عقله ضعيف. أي أنَّ الآية تتحدث عن ظروف وليس عن خِلقة خلقها الله هكذا. 

وسبحان الله. فقد تبع قوله تعالى ( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) تبع قوله تعالى مباشرةً قوله (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ) فنجد هنا أنَّ الآية تسترسل في وصف الوضع القائم والذي كان هو الحد الأدنى في كل شيء. فقد قال الله "استشهدوا شهيدين من رجالكم" وبالطبع لا مانع من أن يكونوا 3 أو 4. لماذا لم يسأل أحدهم نفسه، لماذا يجب أنَّ يشهد رجلين وليس رجل واحد؟ هل نستنتج من ذلك أنَّ الرجال ناقصون؟ أم ماذا نستنتج من الحاجة لرجلين بدل أن يكون رجل واحد كافي؟ لا يقل لي أحد أنَّ رجل ممكن أن يكذب ولكن رجلين لا يكذبان. فالرجلين يكذبان أيضاً وقد يجتمع على الكذب مئات أو حتى آلاف الرجال. ما منع الشهادة أنَّ تكفي بوجود رجل واحد هو نفس ما منع الشهادة أن تقوم بامرأة واحدة. أن يضل أحدهما فيذكر أحدهما الآخر. الكلام ليس من عندي، وإنما هذا ما قالته الآية. كلام الله مختصر ومفيد و بجملة واحدة ( أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ) أوضح الله العلة في طلب أكثر من شاهد. بهذه الصياغة لم نعد بحاجة لأن نقول مثلاً (واستشهدوا شهيدين من رجالكم أن يضل احدهما فيذكر أحدهما الآخر, فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). البلاغة القرآنية تقتضي ذلك.

 الأمر الآخر هو أنه لا يمكن تخيل أنَّ تنزل الآية بشكل يخاطبنا نحن بحيث تقول. (إذا تداينتم بدين فوكّلوا محاميين وخذوا شيكات بنكية واذهبوا لأقرب محكمة وسجلوا عقد التداين، وليأخذ كل منكم صورة طبق الأصل مختومة من قلم المحكمة ولا بأس من أخذ صور بنقالاتكم لكن لا تعتمدوا عليها كثيراً لوجود برامج فوتوشوب قد يتم استعمالها لتزوير قيمة الدين، واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم.
هل يُعقل أن يعطي الله تفاصيل الإجراءات التي تناسب زماننا نحن ونفهمها نحن ونستطيع أن نطبقها نحن؟ أم أنَّ المنطق يقول أنَّ إجراءات كتابة الدين ستكون على الحد الأدنى الذي تستطيع قريش فهمه وتطبيقه فهم لا يعرفون محاميين ولا قضاة ولا آلات تصوير ولا تلفونات بكاميرات ولا فوتوشوب؟


الخلاصة هي أنَّ آيات التداين نفسها ليست ملزمة، وإنما هي مجرد توصيات وواقع المسلمين خير دليل، ما يعني أنَّ شهادة الرجل والمرأتان لا يمكن أن يكونا حكم ولا هو شيء ينطبق على باقي الشهادات. فتفاصيل كتابة الدين جاءت مناسبة لمجتمع الحد الأدنى كي يتم تطبيقها لمن أراد. أمَّا من يأتي بعد هذا الجيل فلهم روح الآيات وليس تفاصيلها.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة