تجديد نظرتك لكل شيء هو أول خطوات التغيير

تجديد نظرتك لكل شيء هو أوَّل خطوات التغيير

كان مقال الأمس مثير في بعض جوانبه خاصة لأولئك الذين يعتقدون أنَّ التغيير قد يأتي بدون ثمن ولا تعب ولا صدمات. التغيير يبدأ من رؤية المشكلة نفسها ثم الاعتراف بمصدرها ثم بوجود نيّة للتغيير لحل المشكلة ثم التخطيط، ومن بعده العمل على ما خططنا. التغيير رحلة وليس حدث. وكما ذكرت، فأوَّل خطوة هي أن نستطيع أن نرى أنَّ هناك مشكلة قبل حتى أن نعترف بمصدرها. وللأسف فإنَّ هناك من يعجز حتى عن أن يرى أنَّ شعوبنا الإسلامية تعاني من مشكلة، وإن اعترف بوجود مشكلة فإنَّه غالباً ما ينسبها للجهة الخطأ.
وهنا سأستعير بعض من قلت من مقال الأمس حين ذكرت:
(هناك حقيقة نعلم جميعاً أنها حقيقة، وهي أننا كشعوب مسلمة نعيش أقصى درجات التخلف ونعاني كثيراً من الجهل والتجمد والركود والكسل وقليل من الثقة مع كثير من انحطاط الأخلاق. لا أتصور أنَّ هناك أي إنسان لديه القدر الأدنى من المنطق يقول بعكس هذا، ولأنَّ هذا هو الحال، فحياتنا موسومة باليأس وممهورة بالتعاسة وأكثر ما نحس به هو انسداد الأفق)
هذا المقطع يختصر المشهد الذي يثبت لكل ذي بصيرة أننا بالفعل في أزمة حقيقة ومصدرها هو طريقة تفكيرنا وممارستنا للعادة البغيضة التي مارستها كل الأمم المنحرفة طوال التاريخ. طوال التاريخ كان كل شعب وأمَّة منحرفة ومتخلفة تقول بلسان واحد ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) 
كل الأمم التي انحطت حضارياً أو أخلاقياً كان سبب انحطاطهم هو رغبتهم في الثبات على الحال وعدم التغيير متحججين بأنَّهم وجدوا آبائهم على شيء، وأنهم مقتدون بآبائهم، وكأنَّ تقليد الأجيال السابقة يعتبر من الأعمال الصالحة! لم يدرك هؤلاء أنَّ أكبر آفة ومصيبة يمكن أن تحل بالشعوب والأمم هي التمسُّك بما وجدوا أنفسهم وآبائهم عليه كحجة لمقاومة التغيير.

 بالأمس توصَّلنا لنقطة مهمة لتحديد مصدر المشكلة، وهو أننا نرفض التغيير، نقاوم التجديد، وننفعل إذا حاول أحدهم أن يجعلنا نفكر في ما ورثناه وتلقيناه من آبائنا على أنه الحق والصواب. نحن نتوارث التخلف والانحطاط من الأجيال السابقة ثم نشتكي من أننا في مؤخرة الركب ونتذيل الأمم ويتحكم فينا كل من هب ودب. وعندما يأتي من يحاول لفت انتباهنا للمشكلة، لسان حالنا يقول ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) نجتر الماضي بكل ما فيه، ونعيد إنتاج نفس الفكر وننتظر أن يتغير حالنا للأحسن. الكوكب كله يتطوَّر إلا نحن، نعيش في قمة الجهل والتخلف، عالة على كل شعوب الأرض وأخلاقنا في الحضيض، ثم نجد الكثير يقول لن يصلح حالنا إلا بالرجوع إلى الخلف. فقد طبعوا في عقولنا مقولة أنَّ خير القرون هي القرون الثلاث الأولى من الإسلام وأنَّ كل من يأتي بعد ذلك سوف يسير في طريق الانحطاط والتخلف. ولم نكذّب خبر، فبالفعل لمَّا اقتنعت عقولنا أنَّ الأجيال مع الزمن تصبح أسوء من التي سبقتها، فأنّى لعقولنا أن تشتغل أو تعمل، فالأمر محسوم والخيرية هي بالسير للخلف عكس عقارب الساعة.

بدون مجاملة وبدون تضييع لمزيد من الوقت، فإنَّ أول خطوة يجب أن نبدأ بها لكي نوقف رحلة تخلفنا وتوجهنا للخلف هي أن نعترف بأنَّ نظرتنا لأنفسنا هي أول وأكبر أخطائنا. نحن أجيال مقتنعة من داخلها بأنَّ الخير قد ناله الأولين، وأنَّ الانحراف والانحطاط والتخلف هو ما سيزيد مع كل جيل جديد، وبالتالي أصلاً نحن مستسلمون لما نؤمن بأنه قدرنا.
ولهذا، ولأنَّ كل من يقول خلاف ما سنقوله هنا، إنما يخدع نفسه ويخادع الناس، فإنَّه يتوجب علينا أن نصدع بالحقيقة حتى لو كانت مرة. إنَّ سر تخلفنا هو في اجترار الموروث هو هو كما هو دون فحص أو تجديد. مصيبتنا هي أنَّ بيننا وبين القرآن حواجز وحُجَب، وأنَّه كتاب للتعبد فقط وليس للتدبُّر. الكارثة التي نحن فيها أنَّ فِهم القرآن قد تجمَّد، ومعانيه قد تحجرت، وكل الآيات التي تدعونا لتدبُّره وتعقل معانيه صارت لا تعنينا ولسنا مخاطبين بها. أقنعونا أنَّ من يقرأ القرآن فقد مهَّد طريقه للجنة، وأنَّ من يتدبَّره بعقله وحسَب معطيات عصره فقد ضل الهدى وصار طريقه إلى النار ممهداً. مشكلتنا تبدأ من الحواجز التي وضعناها في عقولنا بيننا وبين القرآن.

جربوها بأنفسكم. فليقم أحدكم لقوله تعالى ( وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) و ليحاول أن يتدبره بنفسه.
انظروا ماذا سيحصل لعقولكم وما الذي ستقوله لكم أنفسكم. ستقول لكم أنفسكم لا نستطيع. أصلاً لن تصل عقولكم لمرحلة التفكير في الاستطاعة من عدمها، لأنَّ أول شيء سيخبرك عقلك الباطن بفعله أن تذهب لكتب التفاسير وما قاله الأوَّلين وما فهمه الناس قبل قرون طويلة. لماذا سنتعب ونبحث وندرس لكي نفهم بأنفسنا؟ فقد تم الفِهم وقام بالتدبُّر نيابةً عنَّا أقوام آخرون عاشوا قبلنا بقرون طويلة. هم أذكى وأصلح وأتقى وأنقى وقريبين من الوحي، وبالتالي هم سيفهمونه ويتدبرونه بالنيابة عنا، وسيرون ما يحمله النص بشكل أفضل وأحسن. فنحن أجيال لم تكن محظوظة وجاءت متأخرة، ولهذا، فإنَّ  الخير في الأجيال الأولى ونحن بطبيعة الحال ننحدر. أليس هذا ما سيحدُث؟ كم في المائة سيجرئ على محاولة فِهم وتدبُّر القرآن بنفسه وبعقله كما أمر الله عندما قال ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)؟ كم هو عدد الأشخاص الذين يثقون بأنفسهم ويعتقدون بأنَّ الإنسانية تتطور علماً وقيماً وذهناً؟ 
للأسف قلَّة قليلة هي تلك التي تؤمن بأنَّ القرآن هو رسالة الله لنا وتخاطبنا نحن بلا حواجز أو وسطات. قلة هم أولئك الذين يؤمنون بأنَّ الله يخاطبهم عندما قال ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فهل يصح أن يقول الله هذا الخطاب في الآية لكفار قريش ويطلب منهم تدبُّر القرآن لكي يفهموا الحقيقة، ثم يأتي أحدهم ليقنعني أنني اشد عجزاً حتى من كفار قريش أنفسهم، وأنَّ القرآن مسموح لي فقط لأتبرَّك به، وأنَّ تدبُّره هو اختصاص أناس معينين عاشوا في زمن معين وانتهى بعدها التدبُّر وأُقفِلَ بابه؟! لو صدق هؤلاء فإنَّ القرآن ليس رسالة مباشرة من الله لنا، وإنما هو رسالة لخواص الناس، أما البقية، فسيكون هؤلاء الخواص واسطة بينهم وبين الله لا يفهمون كلامه ولا يتدبَّرون قرآنه إلا من خلالهم. لكن كل القرآن يقول أنَّ القرآن هو رسالة لنا جميعاً، وأنَّ خطاب التدبُّر هو مفتوح للجميع لمن يرغب ولديه الهمة لذلك. أمَّا من يحرم التدبُّر علينا ويقفل بابه في وجوهنا، فهو كمن يجعل بيننا وبين القرآن حجاباً مستوراً.

خلاصة القول ولكي لا نتوه عن أصل موضوعنا، فإنَّ تغيير نظرتنا لأنفسنا وللأشياء من حولنا ستكون هي مفتاح تغيير حالنا المنحط والمتخلف في كل شيء.
 في الأيام القليلة القادمة سنركِّز على أهمية تغيير رؤيتنا لأنفسنا بحيث نفهم أننا جيل ليس معاق ولا ناقص، وأنَّ الله لم يزدرينا بأن جعلنا في زمان متأخر، وهو لم يفضِّلنا على أحد في ذات الوقت. الله عادل لا يظلم ويعطي كلاً بقدر.
لقد تدبَّر الأولون القرآن، وفهموا معاني الحياة الدنيا والآخرة، ولم يقصروا في القيام بدورهم في سلسلة تطوُّر الإنسانية، بينما جيلنا أقنعوه بأنه لابد وأنه متجه للأسفل وأنَّ الأجيال تنحرف وتتخلف مع الزمن، فاستسلم الجميع ورفعت العقول الراية البيضاء وأطفأت النفوس مصابيحها، فعمَّ الجهل والتخلف والظلام.

الحل هو في أن نقوم بدورنا كما قام به كل جيل في زمانه. علينا أن نفهم بعقولنا ولا نستعير عقول الأوَّلين. علينا أن نتدبر بعيون عصرنا لا أن ننظر للأشياء من خلال عيون عصور غابرة وقديمة. إذا استعرت عين غيرك فلن تكون شيئاً سوى ما كان عليه؛ لهذا مَن استعار عقول فقهاء الأزمنة التي كان يركب فيها الناس الدواب ويبيع فيه الإنسان أخيه الإنسان في السوق مثله مثل باقي السلع، فلن يكون حالنا إلا ما كانوا عليه. فحتى لو ركبنا السيارات، إلَّا أننا لم نصنعها، ولو لم يصنعها لنا غيرنا من الأمم التي تقدمت، لكنَّا لازلنا نركب الدواب ويبيع بعضنا بعضاً في الأسواق. 
إنها سنة الحياة، فمن أقنَع عقله بأن الإنسانية تتخلف، فسوف يسير للتخلف بعقله قبل رجليه، ومن أقنَع عقله بأنه مكلّف بالجد والكد وأنَّ شعلة التطور هي اليوم بين يديه، فسوف يكدح ويجد حتى يُطوِّر الإنسان في عصره لأنَّ عقله مقتنع بأنه يستطيع.

نكتفي اليوم بهذا القدر، ومن الغدِ إن شاء الله ننطلق لتنظيم فكرتنا عن كيف نغيّر نظرتنا لأنفسنا لكي يتغير حالنا. أنا اعرف أنَّ البعض سيُصدم، والبعض الآخر سيغضب لأنه لا يقبل فكرة أنَّه لديه مشكلة أو أنَّ آبائه كان لديهم مشكلة. لهؤلاء نقول "سامحونا فإنا الركب سيسير في اتجاه امتلاك زمام أمورنا، ولسنا مقتنعين مثلكم بأننا جيل منحط ومتخلف سينجب جيل أكثر منه تخلفاً وانحطاطاً. فدورة الحياة عندنا تسير للأمام وليس الخلف كما هي عندكم. يتطوَّر الإنسان مع الزمن وليس كما تزعمون أو تظنون؛ لهذا عقولنا مستعدة للعمل لأنَّها مقتنعة أن دورها أن تزيد على ما قدمه لها السابقون، بينما عقولكم ليست مستعدة لتحدي قناعتكم بأنَّ آبائكم زادوا تخلفاً عن أجدادكم، وأنَّ دوركم هو أن تزدادوا تخلفاً. مشوار #السعادة طويل ولن نطيل الحوار مع منطقكم المقلوب لأنَّه لدينا ما نعمله"

ومع هذا نحترم الجميع ونتمنى لهم #السعادة والريادة.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة