معضلة الخيرية
بالأمس قد وضعنا أوَّل قدم في أوَّل حقل أشواك في طريقنا نحو الوصول للشعور بالسعادة الدائمة. إنَّها البداية فقط ولم ندخل في عمق الحقل وربما اليوم نضع القدم الأخرى والذي يعني أننا بالفعل صرنا داخل حقل الأشواك. قد يستغرب البعض ويتصور أنني أبالغ لأنه لا يبدو أنَّ ما تناولناه حتى الآن يمثل أي تحدٍ أو معضلة لعقولنا، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الأسلوب الذي اتبعناه في السير يبدو أنَّ مخططه كان فكرة جيدة. فقد قمنا بالتمهيد ثم التمهيد ثم التمهيد لكي تستطيع عقولنا استيعاب الفكرة، فلو ركزتم في طريقة سيرنا وعرضنا للأفكار، ستلاحظون أننا بالفعل نطبق استراتيجية تدريب العقل على استحضار المنطق الإنساني المشترك لفهم الأشياء وتجنب استحضار العاطفة. فحسب تصوري المتواضع، فإنَّ عقولنا تم تدريبها من خلال المقالات التي تشاركناها طيلة الأسبوع الماضي على استحضار المنطق والمنطق فقط عند التفكير ومحاولة فهم الأشياء. فقد استطعنا أن نجبر عقولنا على التفكير بالمنطق والابتعاد عن العاطفة نتيجة عرض الفكرة بالتدريج وفي نفس الوقت استدعاء المنطق بشكل مستمر، والذي نتج عنه أننا اليوم بالفعل سنكون في وسط حقل الأشواك دون أن نشعر بأي وخز حقيقي في أقدامنا.
الآن يمكننا أن نسير بخطى ثابتة مليئة بالثقة، ونسير بشكل أسرع لا تسرع فيه. بصراحة، كم أنا فخور بما أنجزناه وبقدرتنا جميعاً على السير بتركيز عالي وقدرة على الصبر. كم أنتم رائعون.
هناك حقيقة نعلم جميعاً أنها حقيقة وهي أننا كشعوب مسلمة نعيش أقصى درجات التخلف ونعاني كثيراً من الجهل والتجمد والركود والكسل وقليل من الثقة مع كثير من انحطاط الأخلاق. لا أتصور أنَّ هناك أي إنسان لديه القدر الأدنى من المنطق يقول بعكس هذا. ولأن هذا هو الحال، فحياتنا موسومة باليأس وممهورة بالتعاسة وأكثر ما نحس به هو انسداد الأفق.
هذه المشاعر المضادة تماماً لشعور الطمأنينة والسعادة والراحة النفسية هي ما تعودت عليه عقولنا، وصار كل شيء يحدث في حياتنا يشوبه الحزن والقلق حتى لو كان شيء يدعو للفرح والسعادة. للخروج من دوامة اليأس والانحطاط، توجَّب علينا تغيير أسلوب تفكيرنا وطريقة رؤيتنا للأشياء. ونحن بالفعل بدأنا هذا المشوار ووصلنا للنقاط الصعبة والجادة. فنحن قد اقتنعنا أن تغيير أسلوب تفكيرنا ونمط حياتنا وطريقة فِهمنا ورؤيتنا للأشياء هو أمر رائع، لكن الآن نحن أمام أول خطوات التغيير الحقيقة و التي ستسبب انزعاج لبعض العقول وشك ومقاومة في بعض العقول الأخرى. فلا تنسوا أنَّ الإنسان بطبيعته يميل للراحة والتغيير والتطوير هو حركة وكد وتعب، أي أنها ضد الراحة وهو ما يفسِّر مقاومة عقولنا في كثير من الأحيان لفكرة التغيير.
وأول تغيير نحن بحاجة له كي يستمر المسير بخطى ثابتة وراسخة هو تغيير فكرة أنَّ عقولنا عاجزة، وأنَّ الأوَّلين أفضل منَّا. من يعتقد أنَّ عقله عاجز، فكأنه يخبر عقله بأنَّ لا جدوى من المحاولة. هي بهذه البساطة.
عندما نشك في قدرة عقولنا، فعقولنا بطبيعة الحال لن تتحمس للمحاولة لأننا نغذيها بفكرة أننا لا نصلح للمهمة. ولهذا نجد أنفسنا في انتظار الآخرين من الذين لديهم القدرة ونصبح عالة عليهم. ولأنَّ مرض الشك في النفس قد تفشى في عقول الكثيرين، فصار الجميع ينتظر البطل المنقذ الذي لديه القدرة الكافية. ولأنَّ هذه الأحلام العاجزة لا يتحقق منها شيء على أرض الواقع، اتبعت عقولنا تكتيك تخفيف مرارة انتظارنا للمنقذ بلا جدوى عن طريق محاولة إغراقنا في فكرة أننا أحفاد حضارة وتقدُّم وأنَّ أسلافنا كانوا في مقدمة الركب.
ومع التركيز على استدعاء الماضي للتغطية على عورات الحاضر، فقد أصبحنا شيئاً فشيئاً نؤمن بأنَّ الأجيال القديمة كانت أقوى وأفضل وأنَّ الأجيال الحديثة هي أجيال ضعيفة وعاجزة بالمقارنة بأسلافنا.
نحن ما عرضنا فكرة مسلَّمات التراكم المعرفي، والارتقاء القيمي الأخلاقي، وتطوُّر الإنسانية إلا لكي نصل لهذه اللحظة من النقاش. فمن خلال المسلمات الثلاث استنتجنا أنَّ التطور ليس فقط في تراكم المعارف وارتقاء القيم، بل أيضاً في القدرات الذهنية والذكاء. فأول خطوة كان يجب أن نخطوها هي أن نعرف أنَّ الإنسان بطبيعة الحياة يصبح مع مرور الوقت أعلم وأرقى إنسانياً وأكثر تطوراً وذكاءً. و نحن من بني الإنسان ولسنا استثناء، ولذلك، يجب أن نفهم أنه يمكننا أن نكون أرقى وأذكى وأفضل من أي جيل سابق حتى لو كان جيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحن هُزِمنا نفسياً يوم أقنعونا أنَّ أفضل القرون هي قرن النبي ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وأنَّ كل الأجيال بعدهم تسير نحو الانحطاط والتخلف.
تلك اللحظة التي صدَّقنا فيها هذا الكلام، كانت هي ذات اللحظة التي توقفت فيها عقولنا عن المحاولة. فلماذا سنحاول والأمر محسوم؟ فالخير ذهب به الأولوَّن وما بقي لنا سوى أن نسير من انحطاط لانحطاط أعمق منه، فأنّىَ لنا أن نتقدم أو نتطور يوم أن أقنعونا أنَّ الخيرية والخير يسير للخلف عكس عقارب الساعة، وأنَّ الأجيال السابقة خير من الأجيال اللاحقة، يومها اقتنعت عقولنا بأنَّ المسار الصحيح هو للخلف عكس عقارب الساعة. وبالفعل، ما أن استقرت في عقولنا فكرة أنَّ الأجيال السابقة أفضل من الأجيال اللاحقة، ونحن نسير للخلف حتى صرنا اليوم على هامش التاريخ، وعالة على باقي الأمم التي تعرف أنَّ عجلة التطور والتقدم تسير للأمام ونحو المستقبل وليس للخلف نحو الماضي السحيق. نحن قد فسدت عقولنا لدرجة أنَّ بعضنا صار يحلم بمستقبل يستنسخ فيه الماضي في انقطاع تام عن الواقع وانقلاب على المنطق الإنساني المشترك.
اليوم قد يحس بعضنا بوخز الشوك في قدميه لأننا في عمق أعماق عقولنا نؤمن أنَّ الأجيال السابقة خير من الأجيال اللاحقة، وأنَّ أفضل ما يمكن أن نفعله أن نسير للخلف تجاه جيل أصحاب النبي لنصل للقمة. هذه المفاهيم المغلوطة التي تم حفرها في عقولنا هي ما نريد أن ننزعه. ولكن لشدة التصاقه في أعماق العقل الباطن، فلا تتصوروا أنَّ الكثير منَّا سيكون مرتاح لأننا بدأنا بالفعل نلقي على مسامع البعض ما يخالف ما وجودوا عليه آبائهم. مجرد تقبل فكرة أنَّ أفكار عميقة كهذه ليست صحيحة وأنَّه يجب تغييرها، سنصبح حينها أمام مسئولية التغيير والتطوير، والذي يعني الحركة والتعب والكد. وللأسف هذا ما تحاول عقولنا تجنبه.
الخلاصة هي أنَّ أول وخز مؤلم في حقل الأشواك الذي وطأته أقدامنا هو أن نعرف أنَّ جيلنا قادر على أن يكون أقوى وأفضل، لأنَّ أفضلية اللاحقين على الأولين هي سُنَّة الحياة وقانون التطور التي وضعها الله عز وجل.
نحن من أقنع عقولنا بأن تنام وأنَّ السير للخلف وعكس عقارب الساعة هو الخلاص. ولهذا وجب التغيير لكي ننطلق في طريق #السعادة.
في الغد إن شاء الله سنبدأ في تباحث كيفية تغيير هذه الأفكار المغلوطة في عقولنا الباطنة مستفيدين بما فهمناه من المسلمات الثلاث وما استنتجناه منها على مدى أسبوع مضى.
تذكروا! التغيير والتطوير جميل بعد أن يحصل، لكن لن يمر بدون ألم ودفع للثمن. فالسعادة مشوار وليست لحظة ولابد لها من ثمن.. فتابعونا.
جزاك الله خيرا
ReplyDelete