تطوُّر الإنسانية ذهنياً وأخلاقياً بمرور الزمن
اليوم، وكما نبهنا بالأمس، فسوف تطأ أقدامنا أول حقل أشواك في طريقنا نحو فهم أنفسنا وما حولنا، وسيكون موضوعنا هو عرض حقيقة أنَّ الأجيال الإنسانية تتطور ذهنياً وأخلاقياً مع الزمن.
قد يبدو من الوهلة الأولى أنَّ هذا الموضوع مكرر، لكن سترون بعد قليل أننا نناقش موضوع مختلف، فبالفعل قد ناقشنا مسلمات تطور الإنسانية وتراكم المعرفة والتراكم القيمي، لكن النقاش كان عن كونها مسلَّمات وأشياء بالفعل تحدث، ولكن نحن هنا سنتناول نتائج هذه المسلَّمات.
إننا عرفنا الآتي:
أ - المعرفة تتراكم مع الزمن
ب - القيم و الأخلاق ترتقي مع الزمن
ج - الإنسانية تتطور مع الزمن
من ضمن ما ينتج عن هذه المسلمات الثلاث هو أنه يمكن الاكتشاف وبسهولة أنَّ كل جيل يصبح أقوى ذهنياً على فهم أمور أعقد من الأجيال السابقة له، وكل جيل سيكون أخلاقياً (إنسانياً) أفضل من الأجيال السابقة له. القدرة على الفهم بشكل أفضل وتطوُّر القدرات الذهنية للأجيال الإنسانية أمر محوري ومهم في ما نسعى للتأصيل له هنا، ولتوضيح الرؤية سأضع المثال التالي:
الإنسان قديماً كان لا يعرف العد، ولا يعرف الأرقام؛ حتى دفعته الحاجة لاختراع أشكال مرسومة تُعبّر عن الأعداد، بحيث صار لكل عدد شكل في ذهن الإنسان. مع تطور الحياة الإنسانية وتراكم معارف وتجارب الأجيال، وصل الأمر لجيل ما استطاع أن يقفز قفزة ذهنية كبيرة بحيث صار يجمع هذه الأرقام ويطرحها لأنه تطور ذهنياً وتخمرت الصورة في ذهن هذا الجيل لدرجة أنهم صاروا يضيفون ويطرحون هذه الأشكال في أذهانهم. ثم ما لبث الأمر حتى جاء جيل تطورت الصورة الذهنية عنده للأعداد حتى صار يضعها في مجموعات ويضاعفها عدداً من المرات وهو الأمر الذي تحول لعملية الضرب الحسابية، أو ينقص منها مضاعفات وهو الأمر الذي صار يُعرف بعملية القسمة.
الفكرة تكمن في أنَّ الجيل الأول الذي اخترع الأرقام، لم يكن قادر ذهنياً على تخيل أنه يمكن جمعها وطرحها نتيجة أن تجربتهم الإنسانية وتراكم المعرفة في زمنهم لم يسمح لأذهانهم برؤية هذا. ونفس الشيء ينطبق على هذا الجيل بالمقارنة بالجيل الذي اخترع عمليتي الضرب والقسمة.
بكل وضوح يمكن بالنظر للأرقام والعمليات الحسابية ولكيفية ظهورها، ولماذا احتاج الإنسان لاختراعها، سنرى بكل وضوح أنَّ ذهن الإنسان يتوسَّع، وذكائه يتطور مع تطور التجربة الإنسانية بمرور الزمن. فتنوُّع التجربة الإنسانية وتعاملها مع الأشياء والتحديات التي تزداد تعقيداً مع الزمن، وبإضافة أنَّ المعرفة تتوسع عند كل جيل جديد بفعل التراكم المعرفي، لابد وأن يترتب على ذلك تطور ذهني للإنسان بحيث يصبح تفكيره أفضل وأعمق. وبما أنَّ الأجيال الإنسانية تتعامل مع مرور الزمن بأمور أكثر تعقيداً، فكان لابد أيضاً لذهن الإنسان وتفكيره وفهمه أن يزداد حدَّة وقوة وسعة وإدراك.
يمكن اختصار كل هذا بالقول بأنَّ الإنسان بمرور الزمن يصبح أكثر ذكاءً وقدرة على فِهم الأمور بشكل أفضل كنتيجة لتكيفه مع التحديات التي تواجه الإنسانية، والتي بدورها تكبر مع كل جيل.
والآن دعونا نأخذ مثال يمس قليلاً ما نود الوصول إليه، فمثلاً نص قرآني صغير يمكن أن يرينا كيف أنَّ فِهم كلام الله سيتطور مع تطوُّر فِهم الإنسان ومستوى معلوماته وذكائه. فلو أخذنا قوله تعالى في سورة يس (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، فكل من فسرها قبل قرون كان يعتقد أنَّ الشمس تدور حول الأرض؛ ولهذا تقبلت عقولهم روايات مثل الرواية التي تقول أنَّ الشمس تجري ومستقرها تحت العرش. في وقتهم وفي جيلهم، كان ممكن تقبل هذا التفسير أو الفهم لأنَّ سقف فهمهم محدود بمستوى التراكم المعرفي في زمنهم، لكن في زمننا يعتبر هذا التفسير أو الفِهم غير مقبول كون مستوى فهمنا وإدراكنا قد توسع وكبر، وصار تفسير كهذا لا يتفق والمنطق، ويتضارب مع المستوى المعرفي الذي وصلت له الإنسانية. فدوران الأرض حول الشمس صار من المسلَّمات، ولم يعد أحد لم يعرف أنَّ الشمس لا تدور حول الأرض.
من خلال هذه الأمثلة، يمكن التوصُّل بسهولة لحقيقة أنَّ ذهن الإنسان وقدرته على الفهم تتطور مع الزمن وليس فقط حجم المعلومات التي تتراكم في زمنه. ولذلك، فإنَّ فِهم أي شيء حولنا سوف يتغير على وجهين:
الأول: إمَّا أنَّ فهمنا القديم خطأ وقد توصل جيلنا لفهم صحيح لما كان يعتقد الإنسان أنه حقيقة وصارت مع الوقت أمر غير صحيح، مثل اعتقاد الأجيال القديمة بأنَّ الشمس تدور حول الأرض، وهو الأمر الذي اكتشفت الأجيال الأخيرة أنه غير صحيح بالمطلق، وعرفوا أنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس.
والثاني: هو أنَّ فهمنا لم يكن بالعمق الكافي، بحيث أنَّ الفهم القديم كان صحيح ولكن سطحي أو منتقص في جوانبه، وبالتالي وبمرور الزمن نصل لبعد أعلى لفهم الأمر ونستخرج مفاهيم جديدة لم تكن الأجيال السابقة قادرة رؤيتها.
ولكي نربط الاستنتاج البسيط الذي وصلنا إليه بموضوع محور فهمنا لأنفسنا وما حولنا، فإنَّه من الضروري أن نعرف أنَّ فهم الأوَّلين هو جهدهم واجتهادهم والذي سيكون محدود بسقف الأرضية المعرفية لما تراكم عندهم من علوم وتجارب إنسانية، ولأنَّ فهم الإنسان يتطور مع الزمن، فلابد لنا من تجديد مفاهيمنا ورؤيتنا وتفسيرنا لكل شيء. فما وجدنا أنَّه كان فِهم أو تفسير خاطئ، سيستوجب منَّا بذل الجهد كما بذل الأوَّلين جهدهم لفهمه حسب السقف المعرفي الجديد لجيلنا. وما وجدناه قاصراً وغير مكتمل الجوانب، نقوم بالعمل والكد لاستكمال جوانب ما بدأ فهمه الأجيال السابقة ولكنَّ سقفهم المحدود لم يسمح لهم برؤية المزيد. هذا المزيد الذي استطعنا أن نراه بفعل تراكم المعرفة والتجربة الإنسانية وتطور التفكير الذهني للإنسان، هذا المزيد هو واجب علينا القيام به كما قام من قبلنا بواجبهم.
للأسف، يتم تحجيّر وتثبيت وحتى تقديس فِهم الأوَّلين للأشياء، وبدل أن يتطور فهمنا، صارت الشعوب الإسلامية تجتر وتجتر فهم الأولين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
نحن نعرف أنَّ الأولين قد قدموا فهمهم، وقاموا بواجبهم بالكد والعمل على تطوير فهمهم للأشياء، ودورنا كان يجب أن يكون أن نستمر في العمل ونأخذ الشعلة منهم ونبدأ في تطوير فهمهم. إلَّا أنَّ المسلمين ولعدَّة أجيال اليوم قد تخلفوا عن القيام بدورهم ولم يقوموا بالجهد المطلوب من تطوير المفاهيم القديمة. وما زاد الأمر سواءً هو أننا لم نكسل ونتهاون في القيام بعملنا فقط، بل قمنا باجترار فهم الأوَّلين على أنَّه فهم نهائي غير قابل للتطوير وصرنا حتى نقدسه، والنتيجة كانت طبيعية. فقد عاقبتنا قوانين الحياة بحيث صرنا في مؤخرة كل شيء جميل وفي مقدمة كل شيء قبيح، وكأننا نعيش على كوكب آخر غير الذي يعيش عليه باقي الأمم التي استمرت في التطوير والتقدُّم.
سنكتفي اليوم بهذا القدر على أمل أن نستمر غداً في توضيح الصورة أكثر بعد أن مهدنا لها. كل المطلوب منَّا هو أن نتذكر أنَّ استمرارنا بفعل نفس الأشياء التي نعملها منذ عقود طويلة واجترار فهم الأوَّلين لكل شيء وتبنِّي نفس نمط التفكير، لن يقودنا خطوة واحدة للإمام؛ فالتطوير هو تغيير، والتغيير هو حركة، والحركة هي جهد وتعب ومعاناة. لن نتطور ما دمنا نرفض التغيير في نمط فهمنا ورؤيتنا لأنفسنا والأشياء من حولنا. وهذا الجمود هو ما يحول بيننا وبين #السعادة. فالسعادة سلعة غالية ولها ثمن لا يصلها إلا من يدفع.
No comments:
Post a Comment