تجدد فهم القرآن هو أحد أوجه الإعجاز فيه
لنستكمل مسيرتنا نحو وضع منهجية منظمة منطقية لفِهم وتدبُّر القرآن الكريم. اليوم وصلنا لسادس القواعد السبع والتي تقول:
(أنَّ فهم القرآن يتجدد وأنَّ فيه ما سيكون فهمه مباشر لجيلنا وأنَّ فيه ما قد يستعصي علينا الغوص في معانيه ومقاصده؛ لأنَّ فيه عمق لن يدركه إلا الأجيال من بعدنا)
في مقالات سابقة قمنا بتناول مواضيع باستحضارها يمكن أن نمهد لهذه القاعدة السادسة بحيث لا نطيل في شرحها، فقد بيَّنا مسبقاً أنَّ سر الإعجاز في النص القرآني هو أنَّ فهمه يتطور مع الزمن، فكل جيل سيفهم القرآن بطريقة تختلف عن الأجيال السابقة.
وللتذكير، فإنَّ مستوى الأرضية المعرفية والأخلاقية والقدرات الذهنية تتطور مع الوقت وتتحسن من جيل إلى آخر كنتيجة طبيعة لحقيقة أنَّ التجربة الإنسانية تتراكم ويتعلم كل جيل من معلومات وتجارب وأخطاء الأجيال السابقة فيبني على خبراتهم نمط عيش وتفكير أكثر فاعلية وكفاءة.
ولا نريد أن نخوض في هذا كثيراً خاصة أننا قد بحثنا هذا الأمر في مقالات المسلمات الثلاث المتعلقة بمسلمة تطور الإنسانية ومسلَّمة تراكم المعرفة ومسلَّمة الارتقاء القيمي الأخلاقي مع الزمن، ويمكن لمن يحب الرجوع للمقالات من الأخوات والأخوة الفضلاء المتابعين الجدد، يمكنهم الرجوع لمدونة الصفحة التي تحوي كل المواضيع السابقة والتي رابطها هو التالي:
المهم، دعونا نعود الآن لقاعدتنا السادسة، فكما نعرف أنَّ الأجيال تمتلك قدرات فهم وإدراك تختلف ولهذا لا يمكن أن تجد كتاب بشري على الإطلاق يصلح اليوم ويصلح بعد 10 آلاف سنة.
من المستحيل هذا مهما كان هذا الإنسان عبقري وخارق القدرات، فقد نتخيل أنَّ أحدهم أحاط علماً بكل الماضي وامتلك فهم كامل لكل الحاضر، لكن مهما بلغت قدرات ذلك الشخص، فلن يستطيع توقع و رؤية نمط الحياة وحقيقة العلوم في المستقبل البعيد مثل أن نقول بعد 10 آلاف سنة من الآن.
هذه المحدودية للإنسان هي لأنه لا أحد يملك العلم المطلق الذي يشمل القدرة على معرفة ما في المستقبل البعيد، لكن خالق الكون العظيم هو مطلق العلم والمعرفة ويعلم الغيب والشهادة وهما عنده سواء و بالتالي من الضروري وبدون أدنى شك أن يكون النص القرآني الذي هو كلام الخالق العظيم متجاوزاً لحدود الزمان والمكان، ولا يمكن حجر فهمه وحبس معانيه ضمن جدران زمن معين، فالله خلق الإنسانية وهو من يعرف طبيعتها ويعلم أنها تتطور معرفياً وقيمياً، وأنَّ أذهان البشر تتطور مع الزمن، فلابد وأن تكون صياغة القرآن صياغة إعجازية قادرة على تجاوز حدود الزمان والمكان، و هذا هو أحد أهم جوانب الإعجاز القرآني.
وبالتالي فإنَّ أحد القواعد التي يجب أن نأخذها في الحسبان عند تدبُّر وفِهم النص القرآني هو أن ندرك أنَّ فهمه يتطور مع الزمن، وهو الأمر الذي سيعني أننا سنكون قادرين على اكتشاف معاني جديدة في القرآن لم يكن من قبلنا قادرين على إدراكها. فمن الطبيعي أنَّ إنسان اليوم تراكمت لديه شتى أنواع المعارف التي لم تكن الأجيال السابقة تعرفها، وارتقى قيمياً نتيجة تراكم التجربة الإنسانية لكل الأجيال السابقة ووصولها لجيلنا على طبق من ذهب، وبكل وضوح أبعاد تفكيرنا وقدراتنا الذهنية قد تفتقت وتطورت كنتيجة لزيادة مستوى التحديات التي تواجهها الإنسانية مع الزمن، وكل هذا سيقود لحقيقة أنه يمكننا الوصول إلى أبعاد أعمق في النص القرآني ستجعلنا نفهم من القرآن ما لم يكن من قبلنا قادرين على فهمه.
في المقابل وكنتيجة لنفس القوانين والمسلمات، فإنَّ جيلنا سيقف عاجز عن فهم أشياء في القرآن تتطلب أبعاد أكثر تطوراً من المعرفة والقيم، فنحن لسنا كاملين ولدينا الكثير من المشاكل والتحديات التي تواجهنا كمجتمع إنساني لأننا نحتاج لمعارف أكثر ولمستوى قيمي وأخلاقي أعلى، لم نرتقي بعد لدرجة أن نفهم كل القرآن بكل أبعاده. لا يمكن هذا، ولهذا ستأتي بالتأكيد أجيال بعدنا ستفهم أشياء لم نكن قادرين على فهمها أو أشياء لم نكن قادرين على الغوص عميقاً فيها في القرآن لنستخرج معاني جديدة، وهكذا دواليك مع كل الأجيال المتعاقبة على الإنسانية.
والآن دعونا نقدم أمثلة، وأحد أهم الأمثلة السهلة البسيطة على تطور فهم القرآن مع الزمن، يمكن أن نأخذ آيات مثل قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فالأجيال السابقة خاصة جيل فقهاء التراث الذين عاشوا قبل 1000 سنة فسروا هذا النص القرآني على أن الله يتكلم عن دوران الشمس والقمر حول الأرض وأنَّ الليل والنهار يحدث نتيجة دوران الشمس حول الأرض، وطبعاً وبكل تأكيد لا نلومهم على هذا لأنَّ مستوى المعارف في وقتهم لم يكن متطور بالكفاية ليعرفوا أنَّ الشمس لا تدور حول الأرض، وأنَّ الليل والنهار يحدثان نتيجة دوران الأرض حول نفسها، وبالتالي لما تراكمت عندنا المعارف فسرنا الآية بطريقة مختلفة عن كل تفاسير كتب التراث، كان لزاماً علينا ترك التفاسير القديمة وتقديم تفسير جديد يتناسب مع أرضيتنا المعرفية، ففقهاء التراث لم يكونوا على خطأ عندما فسروها على أن الشمس تدور حول الأرض، ولكن سيكون بكل تأكيد خطأ فاحش أن يتبنى جيلنا نفس الفهم بتقليد وتقديس تفاسير الأولين وترك واجبنا في تجديد الفهم والتدبر للقرآن الكريم. العيب سيكون فينا نحن إن لم نجدد الفهم، فالاكتفاء بالتقليد والترديد وتلقين جيلنا نفس الكلام القديم هو الخطأ والعيب.
مثال آخر على تطور فهم القرآن مع الزمن هو قوله تعالى (َمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهي الآية التي تناولناها من قبل و بيّنا فيها أن فقهاء التراث فهموا أنَّ المقصودات بقوله تعالى (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) هن الجواري المملوكات، ولكن عندما فتشنا في الآية بشكل أعمق، وجدنا أنَّ (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) يمكن أن تكون أي شيء إلا الجواري المملوكات بسبب باقي الآية في قوله تعالى (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ومن المعروف أنَّ الجارية المملوكة الأعم الأغلب أنه يصعب الوصول لأهلها إن كان أي من رجالها لا يزال حياً أو لم يقع في الأسر وبيع كعبد، وفي نفس الوقت الجارية مملوكة لسيدها، ويستطيع أن يفعل بها ما يشاء دون الحاجة لدفع أجر حسب فقه التراث.
المهم هو أنَّ المستوى الأخلاقي القيمي في عصر فقهاء التراث قبل حوالي 1000 سنة كان يتقبل ويستسيغ فكرة بيع الإنسان لأخيه الإنسان في السوق كأنه سلعة، ومع تقدم الزمن تطور القيم الإنسانية، أصبحت العبودية والاسترقاق أمر منبوذ ووحشي وتحاربه كل الأمم ولم يعد له وجود أصلاً، وبالتالي صار لزاماً على جيلنا أن يجدد فهمه للآية لكي تتناسب مع المستوى القيمي الأخلاقي الذي وصل إليه إنسان اليوم وسيكون من العيب الاستمرار في اجترار فهم الأولين الذين كانوا أقل منَّا بكثير في المستوى القيمي كما هو الحال في المستوى المعرفي.
بنفس الطريقة، سيقف جيلنا عاجز أمام فهم وتفسير بعض آيات القرآن التي يبدو أنها تحتاج لمستوى معرفي أعلى سوف يصله بكل تأكيد أحد الأجيال القادمة، وكمثال على هذا النوع من الآيات قوله تعالى في قصة سليمان وإحضار العرش (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)
إننا لم نصل بعد لتقنية تنقل الأشياء من مكان لآخر بهذه السرعة الخارقة، لكن ربما في المستقبل قد تتطور العلوم ويصبح مثل هذا الأمر ممكن، وربما ذلك الجيل سيكون قادراً على رؤية وفِهم الآية بشكل أعمق ومختلف.
لا أريد الخوض في احتمالات العمق الممكن الوصول إليه لفهم هذه النص القرآني لأنَّ الأرضية المعرفية لجيلنا اليوم لا تصلح لنذهب أكثر من القول "الله أعلم".
هناك بعض الأشياء في القرآن صعب تخيل معانيها ولهذا من ضمن قواعد منهجية تدبر القرآن هو أن نعلم أننا لن نكون قادرين على فِهم وتفسير كل القرآن لأننا لا نملك المعرفة الكافية والعلم المطلق للإحاطة بعلم الله وقدرته.
الخلاصة هي أنَّ كل من يريد أن يتدبر ويفهم القرآن يجب أن يتذكر دائماً حقيقة أن الفهم والإدراك والقيم تتراكم وتتطور مع الزمن، وبالتالي يجب علينا أن نستعد لأمرين:
الأمر الأول: ألا نتمسك بكل شيء في الفهم التراثي القديم كونه لابد وأنَّ جيلنا تطور بالكفاية ليرى عمق أكبر ويخرج بمعاني قرآنية جديدة أفضل وأصح.
الأمر الثاني: أن نستعد لتقبل فكرة أننا لن نفهم كل شيء وأنَّ هناك جيل سيأتي سيكون أقدر على فهم ما عجزنا عن فهمه أو تصحيح فهمنا الخاطئ لبعض النصوص.
فكما لم يكن مستوى الأولين كافي لفهم بعض القرآن، فمستوانا لابد وأنه لن يكون كافي لفهم البعض الآخر من نصوص القرآن.
نكتفي بهذا القدر على أمل أن نستمر من الغد في تناول القاعدة السابعة والأخيرة في قواعد منهجية فهم وتدبُّر القرآن.
وإلى الغد نتمنى لكم #السعادة.. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment