لقد جاء القرآن لمصلحتنا وأقرب التفاسير للحق هو ما يحققها
اليوم نصل لمحطتنا الأخيرة في قواعد منهجية تدبر وفِهم القرآن الكريم. فسوف نتناول بعون الله القاعدة السابعة من القواعد السبع و التي تقول:
(أن ما نصل إليه من فِهم و تدبُّر يجب أن يكون إيجابي ومثمر ويناسب الأرضية المعرفية والأخلاقية لعصرنا أو يتفوق عليها)
قد تبدو هذه القاعدة بسيطة وسهلة من الوهلة الأولى، لكنها بصراحة فيها عمق ينطوي على تغيير جذري في طريقة نظرتنا للقرآن عندما نسعى لفهمه وتدبره. ويمكن النظر لهذه القاعدة من زاويتين: الأولى هي زاوية الانطلاق، والثانية هي زاوية الملاذ الأخير والتي يمكن توضيحهما من خلال التالي:
زاوية الانطلاق:
وهنا نقصد أن نضع هذه الزاوية نصب أعيننا عن الانطلاق في عملية فهم وتدبُّر نص قرآني، وهو بأن نستحضر عند البدء حقيقة أنَّ القرآن ما نزل إلا ليساعدنا ويسعدنا في الدنيا قبل الآخرة. فالقرآن نزل ليساعدنا على فهم أسرار الحياة الغيبية، والتي لولا وجود القرآن بيننا ما كنّا لنفهم سبب وجودنا ولا من خلقنا ولا ما يحصل لنا بعد الموت.
بدون معرفة هذه الحقائق المهمة ستكون حياتنا بلا معنى، وسنفقد حتى الرغبة في الحياة كلما مر بنا ظرفٍ عصيب. وبالطبع القرآن نزل لنكون سعداء بما وضعه من قواعد عامة تساعدنا على العيش في سعادة ورضا، فلا يمكن أن نتخيل أنَّ القرآن يمهد طريقاً للتعاسة وأنه مصدر للحزن والاكتئاب، أو أنَّ الله أنزله ليكون عقبة في طريقنا ومنغِّص لحياتنا ولتصبح به الحياة شاقة وصعبة.
ما نودُّ قوله هنا هو أننا عندما نكون بصدد تفسير وتدبُّر آية ونص من كتاب الله عز وجل، فيجب أن نتذكر قبل الانطلاق في عمق النص أنَّ القرآن لنا لا علينا، وفيه حل مشاكلنا وليس مصدر لخلق المشاكل مصداقاً لقوله تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) وقوله جل في علاه (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ)، أو قوله سبحانه بأنَّ إعراض الأمم عن كلام الله ومنه القرآن هو ما حرمهم الحياة الرغيدة السعادة في الدنيا قبل الآخرة عندما قال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
لكن للأسف نحن نجتر تفاسير الأقدمين الذين عاشوا نمط حياة مختلف تماماً عن نمط حياتنا اليوم، وكانت القيم الإنسانية عندهم بدائية ولم ترتقي لمستوى قيم وقيمة الإنسان في وقتنا المعاصر فصاروا يستخرجون من القرآن أحكاماً لإكراه الناس ليختاروا بين خيار الإيمان أو القتل، أو أن يشرّعوا الكثير من الأحكام التي تظلم المرأة لأنَّ قيمهم الإنسانية كانت لا تعترف إلا بالذكور فقط، وأنَّ ما عدا الذكور هي أشياء مسخرة للذكور، أو يستنبطوا أحكام لطريقة استعباد الإنسان لأخيه الإنسان بسن قواعد استخدام الإماء والعبيد وغيرها من الأمور التي ما عادت تصلح بزماننا.
ولكي نكون عمليين، سنقدم أمثلة على ما نقوله.
فلو أخذنا على سبيل المثال قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فقد اجتر كثير من المسلمين الفهم المتوارث القديم وفسروها على أنها دليل على تحريم الغناء والموسيقى، وكلنا نعرف وندرك ونفهم كم من السعادة والشعور بالفرح تدخله الموسيقى والغناء على قلوبنا.
الإنسان بطبيعته عندما يشعر بالسعادة يغني أو يفكر في الغناء، يصبح هناك تأثير إيجابي للموسيقى على النفس البشرية وتحسين الحالة النفسية للإنسان هو أمر أثبتته كل البحوث وما عاد يجادل فيه إلا من يتبعون ما وجدوا عليه آبائهم فهم على آثارهم مقتدون.
وهنا يمكن أن نربط بين القاعدة السابعة وبين طريقة فِهم وتدبُّر هذه الآية، فعندما نعلم أنَّ أشياء مثل الموسيقى والغناء هي لها أثر إيجابي على النفس الإنسانية، وأنها لا تضر بأحد، فعندها يجب أن نستبعد عن أدمغتنا فكرة أن تكون الآية تتكلم عن الغناء. هذا هو معنى القاعدة السابعة بكل بساطة.
ومن جانب آخر، فإنَّ هذه الآية تعتبر مثال واضح وجميل على الضرر الذي يسببه اجترار الفهم القديم دون تفكير أو تمييز، وإنما تقليد أعمى وتقديس لكلام بشر يخطئون ويصيبون. لو كان الغناء والموسيقى من المحرمات لذكرها الله جل في علاه بشكل مباشر وصريح، ولكرر هذا في كتابه العزيز دون مواربة أو تعريض، أو على الأقل لأثبت مرور الزمن ضرر ومخاطر الغناء والموسيقى على حياة الإنسان، فلا الله حرَّمه بشكل مباشر ولا أثبتت الحياة بمرور الزمن أنها مضرة وخطيرة، ومع هذا يصر من يصر من الذين يتبعون ما وجدوا عليه آبائهم على أنها من المحرمات، وبل من الموبقات.
وقبل أن أترك هذه الآية، أريدكم أن تذهبوا للسياق كاملاً لتكتشفوا كم هي فرية كبيرة على الله أن نحشر فيها الغناء والموسيقى.
زاوية الملاذ الأخير:
وهنا نقصد أنه في حال أخذ القادرون على تدبُّر القرآن بزمام المبادرة وبدأوا بتفسير وتدبُّر نصوص القرآن، فقد يصلوا لتفاسير مختلفة قد يحتملها النص القرآني ولا تتعارض مع المنطق الإنساني المشترك، حينها سنجد القاعدة السابعة في منهجية التدبر جاهزة للتطبيق. فوجود تفسيرين منطقيين لنفس النص القرآني يخضعان للقواعد الست السابقة قد يحتم علينا حسب الظروف أن نختار بينهما، وليتم الاختيار يمكن أن نستخدم القاعدة السابعة بحيث نفكر في أنَّ أي التفسيرين أقرب لأن يكون إيجابي ومثمر ويناسب الأرضية المعرفية والأخلاقية لعصرنا أو يتفوق عليها.
وهنا نقطة فيصلية، فحتى فقهاء التراث نفسهم لا يرون أنَّ تفسيراتهم مقدسة ولا هم قالوا أنَّ باب الاجتهاد يجب أن يُقفَل بعدهم. من أقفل الباب هم المقلدون المقاومون للتغيير من الذين لسان حالهم يقول (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) المهم وبما أنَّ باب التدبُّر والاجتهاد في فهم النص مفتوح، فلابد وأننا سنجد من يتدبر من عصرنا ويقدم لنا فهم جديد يختلف عن فهم فقهاء التراث.
ولنفترض أنَّ كلا التفسيرين منطقي ولا يتعارض مع القرآن نفسه، فعلى أقل تقدير، يجب أن نضع التفسير القديم والتفسير الحديث على كفتي الميزان، ونحاول أن نعرف أيهما أقرب لأن يكون إيجابي ومثمر ويناسب الأرضية المعرفية والأخلاقية لعصرنا أو يتفوق عليها.
الأمر بغاية السهولة، لكن للأسف سنجد من يقدس أقوال وأفكار البشر، ويضعها موضع قدسية النص القرآني نفسه ويرفض أي فهم جديد لأنه قيل له أنَّ الأولين أولى بالإتباع، مما يعني أنَّ أي جديد مهما كان شكله فالحكم قد صدر عليه بأنه لا يصلح عند المقلدين الكسالى.
المضحك المبكي هو أنَّ القرآن نفسه على طول الكتاب وعرضه يقول لنا أنَّ أكبر آفة مرت على الإنسانية هي آفة ميول الإنسان لاتباع الأولين؛ ولذلك انحرفوا وضلوا وهلكوا.
عموماً، فخلاصة زاوية الملاذ الأخير، هي أنَّه في حال أننا أمام تفسيرين سواء قديمين أو حديثين أو حديث و قديم، وأنَّ القواعد الست السابقة قد انطبقت عليهما، فإنَّ النقطة السابعة هي ما سيساعدنا للتقرير بأي التفسيرين نأخذ.
خلاصة القاعدة السابعة هي أنه يجب أن نضع في الحسبان المصلحة التي يجلبها الفهم والتدبُّر الجديد طالما خضع للقواعد الست السابقة، لا يمكن أن نتخيل النص القرآني قد نزل ليعرقل حياتنا ويفسد مصالح الإنسانية وينشر الحزن والذعر والتعاسة، لا يمكن أن يكون هذا من مقاصد القرآن الكريم. لقد جاء القرآن الكريم ليساعدنا وليدخل على قلوبنا السعادة وهو ما يجب أن نفكر فيه لفهم النص وتدبُّره ابتداءً، وحتى عندما تتساوى التفاسير فإنَّ التفسير الأقرب لأن يكون إيجابي ومثمر ويناسب الأرضية المعرفية والأخلاقية لعصرنا أو يتفوق عليها سيكون هو صاحبنا.
بهذا نكون قد أنهينا القواعد السبع لمنهجية تدبُّر وفِهم القرآن الكريم، وبهذه القواعد السبع ستزول الحواجز التي وضعوها بيننا وبين القرآن، ونستطيع أن نفهم رسالة ربنا لنا بدون وسطاء.
في الغدِ إن شاء الله سنقوم بوضع صورة كاملة للمنهجية بعد أن غطينا القواعد السبع لكي نتثبّت من أننا قادرون على تلقي رسالة القرآن فنسعد بها وتساعدنا على المداومة بشعور #السعادة والرضا.. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment