أهمية توافق تدبر آيات القرآن مع خطوطه العريضة


مازلنا بفضل الله مستمرين في مناقشة قواعد منهجية تجديد تدبر وفِهم القرآن الكريم، واليوم وصلنا للقاعدة الرابعة ضمن القواعد السبع في المنهجية.
قاعدتنا اليوم تقول:

(أن نستخرج الخطوط العريضة التي يرسمها الخطاب القرآني على طول الكتاب وعرضه)

ويمكن اختصارها بأن نقول فهم قواعد القرآن الكليَّة، وهنا نقصد أنَّ الخطاب القرآني يؤسس لقواعد كبرى ومعاني مجملة تلخص قواعد الخطاب وأهدافه، فعلى سبيل المثال: لو سألنا أنفسنا ما هي الأمور الواضحة في القرآن التي أسس لها وكررها كثيراً لدرجة أن نعتبرها أنها قاعدة مؤسسة من قواعد الخطاب القرآني، ومن الطبيعي أن نجد هذه القواعد التي يصعب الاختلاف عليها.
كمثال للتوضيح، فإنَّ وحدانية الإله هي أمر تم التشديد عليه  تكراره في القرآن بشكل كبير، بحيث أنه من الصعب أن يقرأ أحدهم القرآن ويعتقد بخلاف ذلك، ولهذا فإنَّ حقيقة أنَّ خالق هذا الكون هو واحد أحد هي إحدى القواعد التي ترسم الخطوط العريضة في القرآن.

أهمية هذه القاعدة في منهجية تدبر القرآن هو في أننا عندما نريد أن نتدبَّر آية أو جملة في القرآن ومن صياغتها وجدنا أنها يمكن أن تحمل عدة معاني، فإنَّ أحد وسائل اختيار المعنى الصحيح أو الأقرب للمنطق هو أن نتأكد أنَّ فهمنا وتدبُّرنا لا يتعارض مع الخطوط العريضة التي يرسمها القرآن، ليس هذا فحسب، بل يمكن أن نستخدم هذه القاعدة في منهجية التدبر لتقييم وقبول أو استبعاد تدبر أحدهم واجتهاده. فمن قدم لنا تدبُّر لآية وقام بتفسيرها بشكل يعارض الخطوط العريضة في القرآن، فسنستطيع بكل سهولة استبعاد هذا الفهم لأنه يجعل القرآن يتعارض بعضه مع بعض.
قد يكون الفهم المُقَدم لنا ممكن وحتى تركيبه المنطقي سليم، لكن بمجرد أنه يتعارض مع الخطوط العريضة التي يرسمها الخطاب القرآني على طول الكتاب وعرضه، فهذا يجعل الفهم غير صحيح وغير منطقي، فحتى على مستوى البشر، فإنَّ مؤلف أي كتاب سيكون لديه فكرة أساسية للكتاب أو عدة أفكار رئيسية مبني عليها فكرة الكتاب كله، وبالتالي عند محاولة فهم أي جملة في كتابه يجب أن نفهمها ضمن إطار الفكرة الأساسية للكاتب

فلو افترضنا أنَّ هناك مؤلف كتب كتاب عن فوائد ممارسة الرياضة لصحة الإنسان الجسدية وأننا مررنا على جملة ضمن الكتاب تقول (يجب الحذر عند ممارسة الرياضة لأنَّه من مضار ممارسة الرياضة الصحية هي أنها قد تسبب الإصابة بالشلل)، هنا نحن أمام جملة قد نفسرها على أنَّ الكاتب يحذر الناس من ممارسة الرياضة وأنه يرى أنها شيء ضار للصحة، رغم أنَّ الجملة تقول هذا بصراحة، إلا أنَّ تفسيرها على هذا النحو لا يمكن قبوله؛ لأنَّ الكتاب من أوله لآخرة تم كتابته لإقناع الناس بفوائد الرياضة الصحية ولهذا فتفسير أحدهم للجملة على أنَّ الكاتب يريد الناس أن تبتعد عن الرياضة لأن نتائجها قد تكون خطيرة، مرفوض تماماً.

بينما يمكن تفسير الجملة ضمن السياق العام للكتاب وتماشياً مع الخطوط العريضة له بالقول أنَّ الكاتب يشجع على ممارسة الرياضة لأنها نافعة للصحة، ولكنَّه يريدنا أن نحذر من ممارسة الحركات الخطيرة التي قد تؤدي إلى إصابات في العمود الفقري وبالتالي الشلل. هذا فهم مقبول لأنه منطقي والأهم أنه يتماشى مع الخطوط العريضة للكتاب كله.

والآن دعونا نأخذ أمثلة من القرآن نفسه، فهناك خطوط عريضة يمكن رسمها على طول الكتاب وعرضه مثل حرية الاعتقاد، فمن يقرأ القرآن سيكتشف بكل سهولة أنَّ إكراه أي إنسان على الإيمان برسالة القرآن هو أمر مرفوض وغير جائز. 
هذه حقيقة لا يقول بغيرها إلا أعمى البصيرة، لأنَّ القرآن أكَّد مراراً وتكراراً على حرية الاعتقاد بشكل يجعلنا نضع "حرية الاعتقاد" ضمن الخطوط العريضة في القرآن.
الآيات الدالة على ذلك كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
1- (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)
2- (قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل)
3- (وأن اتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين)
4- (إنما أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل)
5- (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون)
6- (فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين)
7- (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)

الكثير والكثير من الآيات تعيد وتكرِّر وتؤكد على أنَّ كل إنسان حر في أن يؤمن أو يكفر وأنَّ حسابه على الله، وبالتالي فإنَّ أي شخص يأتينا ليقنعنا بفهم آية على أنها دليل على أنَّ الله يأمرنا بإجبار الناس على الإيمان أو أنهم سيُقتلون إن لم يؤمنوا، فإنَّ هذا الرأي والتدبُّر مرفوض جملةً وتفصيلاً لأنه يعارض الخطوط العريضة التي يرسمها الخطاب القرآني على طول الكتاب وعرضه كما فعل البعض مع قوله تعالى ((وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ). فهم فسَّروا أنَّ الله يقصد بقوله في نهاية الآية (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أنَّ العذاب في الدنيا هو القتل. فهذا التدبر ممكن منطقياً لكن مرفوض عقلياً لأنَّ كتاب القرآن ككل يؤكد على حرية الاعتقاد فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا التدبُّر يسير عكس اتجاه القرآن كله فهذا لا يمكن أن يكون تدبُّر مقبول أو فهم صحيح على الإطلاق.

الخلاصة هي أنَّ القرآن يرسم قواعد وخطوط عريضة يمكن التوصل إليها والبحث عنها، وبمجرد فهمها، يجب بعد ذلك وضعها ضمن منهجية الفهم والتدبُّر لأي آية في كتاب الله. فمن قدم لنا تدبُّر وفِهم يتوافق مع قواعد القرآن وخطوطه العريضة الواضحة، ففي تدبره نظر، ومن جاء بفِهم أو تدبُّر يعارض كليات القرآن وخطوطه العريضة، ففهمه مرفوض وغير مقبول وغير منطقي عقلاً؛ لأنَّ الله أكد على شيء مراراً وتكراراً على طول القرآن وعرضه، وهذا قد جاءنا بفهم يجعل القرآن يناقض بعضه بعضاً.

غداً إن شاء الله نستمر في رحلتنا نحو وضع منهجية فِهم وتدبُّر القرآن بتناول النقطة الخامسة من النقاط السبع في منهجية فِهم وتدبُّر.

دامت لكم #السعادة مقصداً ومهَّد الله لكم لها طريقاً.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة