الفرق بين القصص و التشريع في القرآن

الفرق بين القصص والتشريع في القرآن

اليوم يحط بنا الرحال عند القاعدة الخامسة ضمن القواعد السبع لفهم وتدبُّر القرآن الكريم، وقاعدة اليوم مهمة جداً وشائكة جداً وتحتاج ربما لتقسيم شرحها على مقالين.

قاعدة اليوم في منهجية التدبر تقول:

(أن نتذكر دائماً أنَّ القرآن به الكثير من القصص للعبرة، وأنَّ أكثر قصة مذكورة فيه هي قصة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم)

كلنا نعرف أنَّ القرآن به الكثير من قصص الأنبياء والرسل، وأنَّ هذه القصص بها الكثير من العِبَر والعظات التي أراد الله لنا أن نكتشفها ونستشفها من كل قصة وسيرة وردت في كتابه العزيز، ولو سألت عمَّن هو الرسول أو النبي الذي تم التركيز على قصته بشكل أكبر، فأتصور أنَّ الأغلبية ستجيب وبكل ثقة بالقول: "موسى عليه السلام". وبالفعل، تكررت قصة موسى في القرآن بتفاصيل مختلفة و من زوايا مشاهدة مختلفة لنفس الموقف، قصة موسى عليه السلام من أكثر القصص التي وردت في القرآن لكنَّ المفاجئة هي أنها ليست القصة الأكثر ظهوراً. 

النبي الذي ظهرت قصته بشكل أكبر في القرآن هو "محمد" صلى الله عليه وسلم، نعم، محمد بن عبد الله عليه السلام كان هو محور القصص القرآني، وزيَّنت قصته كل جوانب المصحف.

قد يستغرب البعض لأنَّ فكرة أن يكون القرآن قد تناول قصة نبينا محمد عليه السلام هي فكرة غريبة على أدمغتنا، فعندما نسمع مصطلح قصص الأنبياء في القرآن يخطر ببالنا كل الأنبياء إلا نبينا محمد عليه السلام، لا أعرف السبب تماماً وراء هذا الأمر، لكن ربما يكون الفهم التراثي القديم للقرآن هو مصدر الفكرة حيث أنَّ أغلب فقهاء التراث لا يتعاملون مع الآيات التي تذكر الأحداث التي دارت في حياة النبي وذكرها القرآن، لا يتعاملون معها على أنها قصة نبي، وإنما على أنها تشريعات وأحكام في فصل منهم بين مسيرة الإنسان ما قبل بعثة نبينا محمد وما بعد بعثته وهو الأمر غير الصحيح، فالقرآن كان يؤكد دائماً على أنَّ نبينا محمد عليه السلام هو نبي مثل باقي الأنبياء وأنَّ البشر هم البشر قبل بعثته أو بعدها، فلا القرآن قال أي شيء صريح يجعل نبينا محمد عليه السلام مختلف عن باقي الأنبياء، ولا قال أنَّ البشر قبله صاروا مختلفين عن البشر بعده.
فلماذا فرَّقوا بين الأنبياء وجعلوا قصة سدينا محمد ليست قصة كباقي قصص الأنبياء؟  القرآن يقول العكس تماماً، فسيدنا محمد مثله مثل باقي الأنبياء هو الأمر الوحيد الذي صرَّح به القرآن بشكل صريح ومباشر في قوله تعالى:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ)
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

آيات كثيرة مباشرة وصريحة تأمرنا وتأمر نبينا محمد نفسه بألا نفرِّق بينه وبين أي رسول أو نبي آخر. النبي نفسه مأمور بأن يقول للناس أنه لا فرق بينه وبين أي رسول آخر بشكل صريح ومباشر لا يحتاج حتى لتدبُّر ولا تفسير في قوله تعالى (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 

فلماذا يفرِّق البعض بين سيدنا محمد عليه السلام وبين باقي الأنبياء و الرسل؟
إنهم يخالفون صريح القرآن بشكل صريح ومباشر، حتى عندما قال الله عز وجل أنه هو ذاته يفضِّل بعض الرسل على بعضٍ في قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ), كان هذا تصريح منه سبحانه بأنه هو ذاته ووحده الذي يُفضِّل بينهم, بينما نحن مأمورون بألَّا نفضِّل ولا نفرِّق. النبي ذاته مأمور بألا يفرِّق ولا يفضِّل نفسه على باقي الرسل بأمر مباشر صريح.
هل يجب أن نتظاهر بالعمى ونتصرف وكأننا لم نسمع قوله تعالى عندما قال (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)  من المخاطب في قوله تعالى في بداية الآية بكلمة "قل"؟ أليس نبينا محمد عليه السلام؟ فمن أين جاءوا بفكرة أنَّ نبينا محمد هو أفضل من غيره من الرسل وأنه يختلف عنهم جميعاً؟ سامحوني على التكرار، لكن هذه نقطة مفصلية وجوهرية ستكون حجر الأساس في إعادة كل ما قلبوه رأساً على عقب لوضعه الصحيح. 
تحمَّلوني وتحملوا تكراري، ولكن في الحقيقة أنَّ الله جل في علاه هو من كرَّر ولست أنا؛ لأنه أراد أن يكون الأمر واضح لمن يبحث عن الحقيقة، ولأنه يعلم أنه سيأتي من يقلب الحقائق ويُقوّل الله ما لم يقله، ولهذا فقد كرر سبحانه نفس الكلام في آيتين مختلفتين.

نفس الكلام، انظروا لقوله تعالى في سورة البقرة الآية 136
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
و انظروا لقوله تعالى في سورة آل عمران الآية 84
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

أرجوكم وأستحلفكم بالله أن تقرأوا الآيتين مراراً وتكراراً لتنتبهوا لتكرار الله للأمر، الآيتين متطابقتان في المعنى وكرَّر الله نفس المعنى مع اختلاف جوهري يبيِّن سبب التكرار لكي لا يأتي أحد و يتقوّل على الله و يُقوّله ما لم يقله جل في علاه ..... ففي الآية الأولى في سورة البقرة خاطب الله المؤمنين الذين هم نحن بأن نؤمن بكل الأنبياء و أن .. لا .. نفرق .. بين .. أحد .. منهم ..... ثم عاد سبحانه في سورة آل عمران ليصدر نفس الأمر ويوجه نفس الأمر، ولكن هذه المرة على لسان نبيه محمد كي يعلم الجميع أنَّ نبينا محمد عليه السلام هو نفسه مأمور بعدم التفريق بين الأنبياء والرسل ولسنا نحن فقط كما كانت عليه صياغة الآية في سورة البقرة. فلماذا يكذبون على الله ويقولون أنه يفضِّل نبينا محمد وأننا يجب أن نقول أنه أفضل الأنبياء والرسل؟ أأذِن الله لهم أم على الله يفترون؟ أم أنَّ الله أشهدهم على هذا وآتاهم كتاب غير الذي أنزل على نبيه؟ فليأتني أحدهم من كتاب الله بشيء يُفضِلُ به نبينا محمد عليه السلام على باقي الأنبياء والرسل. فسينغضون إلينا رؤوسهم ويقولون سمع فلان عن فلان أنَّ فلان حدثه فلان أنَّ فلان أخبره عن أبيه عن جده أنَّ النبي قال كيت وكيت! ليس لديهم إلا روايات يروي فيها حي عن سلسلة من الأموات لم يسمع فيها هذا الحي ولم يرى شيء مما روي له، ثم يجعلونها حاكمة على القرآن وفوقه وقبله حتى وهي تناقض صريح القرآن الساطع سطوع الشمس ظهيرة يومٍ قائض.

ألم يمر عليهم قول الله جل في علاه عندما قال (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)؟ لَكَمْ أشفقُ عليهم من سوء ما يعملون.

عموماً من لم يجد دليل غير الروايات التي تناقض صريح القرآن وأصر على التظاهر بالعمى، فله ذلك، وباقي كلامنا لا يعنيه. أمَّا من يخشى الله ويتقيه ويعلم أنَّ عقله محل التكليف ويرفض التقليد الأعمى والاتباع على عمى، فليواصل معنا لنكمل قاعدتنا الخامسة.
وبما أنَّ نبينا محمد عليه السلام مثله مثل باقي الأنبياء والرسل وأننا أصلاً مأمورون بالإيمان بكل الرسل وبعدم التفريق بين رسولنا وبين باقي الرسل، فلا يوجد أي مبرر للتفريق بين قصص الأنبياء جميعاً وبين قصة سيدنا محمد عليه السلام.

وسبب التأكيد على أنَّ أكبر قصة في القرآن هي قصة سيدنا محمد، هو أنَّ كل الآيات التي تروي لنا الأحداث التي دارت في عهد نبينا محمد عليه السلام، وكل الخطابات التي دارت بينه وبين قومه، وبينه وبين أصحابه، وبينه وبين ربه هي من ضمن قصة النبي، حينها سنكون أمام أمر يغير طريقة تدبرنا للقرآن ويجعلنا بالفعل نراها من زاوية جديدة غير الزاوية التراثية القديمة لفقهاء التراث الذين كانوا أصلاً يفرِّقون بين الرسل بتفضيل نبينا على باقي الأنبياء. هذه الزاوية الجديدة ستفتح أعيننا على القرآن بعيوننا وليس بعيون غيرنا.

ولكي نكون عمليين سنقوم بطرح مثال على كيفية تدبر آية يستخدمها البعض على أنها تشريع، بينما هي في الحقيقة جزء من قصة الرسول رواها لنا الله عز وجل في القرآن. فالحوار الذي دار بين الله عز وجل و بين موسى أو قومه (بنو إسرائيل) هو جزء من قصص موسى عليه السلام في القرآن مثل قوله تعالى مخاطباً موسى (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) وهذا خطاب مباشر من الله لموسى، وهو جزء من رواية قصة موسى في القرآن 

وقوله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)  هذه الآية, و مثيلاتها كثير من التي تخاطب بني إسرائيل, هي خطاب مباشر من الله جل في علاه لموسى وقوم موسى وهي ضمن قصص موسى عليه السلام في القرآن.

بنفس الطريقة، فهناك آيات خاطب الله بها نبينا محمد وآيات أخرى خاطب بها أصحابه وردت ضمن سياق قصص نبينا محمد عليه السلام. لنأخذ مثلاً قوله تعالى في سورة التوبة الآية 123 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 
هنا آية جاءت ضمن قصة سيدنا محمد التي رواها الله لنا في القرآن بخطاب موجه لأصحاب النبي والذي أمر فيه أصحاب النبي بأن يقاتلوا من جاورهم من الكفار وأن يعاملوهم بغلظة لأننا كلنا نعرف أنَّ الأمم التي جاورت دولة الإسلام زمن السنوات الأخيرة من حياة النبي كانت تعتدي عليهم وتحاربهم وتمارس ضدهم كل أنواع التآمر والإرهاب، فكان يجب أن يدافع النبي وأصحابه عن هيبة دولتهم الوليدة ويفرضوا هيبتهم، وإلا استهانت بهم تلك الأمم المجاورة لهم وسعت للقضاء عليهم. 

هذه الآية هي أحد أهم وأفضل وأوضح الأمثلة التي تبيِّن ما نقصده بأنَّ أحد أهم قواعد تدبُّر القرآن ألا ننسى أنَّ معظم القرآن يحكي قصة نبينا محمد عليه السلام.

دعونا الآن نعود للآية، ففي بداية الآية نجد الخطاب موجه بالقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي أننا الآن أمام فهمين وطريقتين للتدبر، إمَّا أن يكون الخطاب هو من ضمن قصة النبي في القرآن وربنا عز و جل يحكي لنا القصة والتي من ضمنها ما نقله الله لنا من خطابات وجهها سبحانه لطائفة المؤمنين من أصحاب نبيه محمد، وفي هذه الحالة سيكون هذا سرد قصصي لأحداث وخطابات دارت بين الله جل في علاه، وبين أصحاب نبيه محمد عليه السلام كتلك الخطابات التي دارت بين الله وبين قوم موسى التي أوردنا مثالأً عليها أعلاه، وبهذه الطريقة سنفهم أننا لسنا أمام تشريع إلهي وأمر رباني يأمرنا فيه بمحاربة كل الأمم والشعوب المجاورة التي ليست مؤمنة مثلنا، وأنَّ كل ما في الأمر هو أنَّ الله حكى لنا ما حصل بين المسلمين في عهد النبي، وبين الأمم المجاورة ومن ضمن القصة كان هذا الخطاب من الله لأصحاب النبي في الآية التي أخذناها كمثال.

أمَّا من سيأخذ الخطاب على أنه ليس جزء من قصة النبي، وأنه تشريع إلهي مخاطب به كل المؤمنين في كل زمان و مكان متحججاً بورود جملة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في بداية الآية، فهذا يعني أنه يجب أن نلتزم بهذا الأمر الإلهي وننفذه على الفور دون إبطاء، مما يعني أنَّ داعش وأخواتها من جماعات التشدد المتطرفة كانوا على حق وأننا نحن المعارضون لهم متخاذلين مُعرضين عن أمر الله. إذا كان كل خطاب قرآني يبدأ بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو تشريع وليس جزء من قصة، فهذا يعني أنَّ هذه الآية لن تكون استثناء، ونحن بالفعل يجب أن نحمل السلاح ونبدأ بغزو ومحاربة كل الشعوب المجاورة لنا، وكلما هزمنا شعب وأدخلناه تحت حكمنا صار لزاماً علينا غزو الشعب المجاور للشعب المجاور لهم لأنهم الآن أصبحوا مجاورين لنا، وهكذا دواليك.
أي بمعنى آخر نحن مأمورون بأمر إلهي صريح موجه لنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أن نغزو كل شعوب الأرض الغير مؤمنة (الكفار) وأن ندخلهم تحت حكمنا أو يؤمنوا! بصراحة، لا أريد أن أضيع الوقت للرد على من يتصور أن هذا ما تعنيه الآية احتراماً لوقت المتابعين الأكارم، فالمقال صار أطول من اللازم، لكن أحب أن أقول لكل من يعتقد أنَّ هذا الخطاب موجه لكل المؤمنين في كل زمان ومكان وليس جزء من قصة النبي، أحب أن أبشره بأن هناك داعشياً صغيراً يعيش في رأسه قد يكبر يوماً ما.

الخلاصة، من خلال المثال الذي قدمناه تبيّن لنا أنه من المهم أن نعرف أنَّ الكثير من الخطابات القرآنية الموجهة للنبي وأصحابه هي في معظمها قصص وليست تشريعات ملزمة مثل الآية التي أوردناها في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 

وللتمييز بين ما هو تشريع وما هو قصة، يجب أن نطبق قواعد منهجية فِهم وتدبُّر القرآن والتي نحن مازلنا ندرس القاعدة الخامسة منها لكي نخرج بفهم وتدبُّر سليم، فالآية التي استخدمناها هنا من الواضح أنها جزء من قصة وليست تشريع، لأننا لو فسَّرناها على أنها تشريع، فهذا سيجعلنا نخرج بمعنى يتعارض مع كليات القرآن وخطوطه العريضة، حيث أننا فهمنا من القاعدة الرابعة التي ناقشناها بالأمس أنَّ للقرآن كليات وخطوط عريضة هي ما يحدد لنا المعنى الممكن والصحيح في نفس الوقت. لأنه قد يكون هناك معنى ممكن ولكنه غير صحيح لأنه يجعل القرآن يتناقض بعضه مع بعض، ففهم الآية في مثالنا هنا على أنها تشريع يتعارض مع أحد الخطوط العريضة للقرآن، والتي هي حرية العقيدة والتعايش السِلمي بين الناس على الأرض.

لهذا ولأنَّ المعنى إذا صرفناه على وجه التشريع قد يكون ممكن، إلا أنه غير صحيح لأنه يتعارض مع كليات القرآن وخطوطه العريضة. فكنتيجة، سيكون الخطاب هو جزء من قصة النبي رواها لنا الله في القرآن، ولهذا هي ليست تشريع.
.
نأسف على الإطالة، لكنَّ الأمر ما كان يمكن أن نتناوله على عجل لأهميته، ولأنه متشابك وشائك. فالغالبية العظمى من المسلمين عندما يمرون على أي خطاب قرآني يبدأ ب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، مباشرة ستقفز أذهانهم إلى فكرة أنهم أمام تشريع في حين أنَّ هناك أوقات كثيرة يأتي فيها الخطاب على سبيل القصص وليس التشريع.

مشوارنا طويل ولكنه بدون أدنى شك يستحق الصبر والتعب، لأنها #السعادة، والتي أصبحنا نعرف أنه لا يمكن اختصارها في لحظة 
#السعادة رحلة من لحظات سعيدة أدامها الله لكم، فتابعونا لنكمِل المشوار.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة