التراث و فقهاء التراث

التراث وفقهاء التراث

أعرف أنَّ البعض يتضايق من التكرار، وأنَّ معظم مقالاتنا هنا مليئة بالتكرار خاصةً في بدايتها. للأسف نحن مضطرون لهذا التكرار لسببين: الأول هو أننا وجدنا أنَّ لكل مقال جديد متابعين جدد لم يطّلعوا على ما سبق من تسلسل في البحث والتفكير، ولأنَّ كثير منهم يكون مهتم بفهم الفكرة، فكان لابد من تقديم ملخص سريع في بداية كل مقال اربط به نتائج ما سبق مع فكرة مقال اليوم ومع الفكرة العامة لمخططنا كله. لا أحب أن اترك أحدٌ تائه لا يعرف عمَّا أتحدث وهم في الحقيقة كثيرون من المتابعين الجدد الأفاضل. أمَّا السبب الثاني فهو راجع لما ناقشناه في المقالات الأولى والتي تبيَّن لنا فيها أنَّ العقل الباطن يحتاج لتكرار الفكرة المخالفة لما اعتاد عليه كي يستطيع إزاحة القديم ليحل مكانه الجديد. إنَّ تكرار الفكرة هي منهجية متعمدة لمساعدة عقولنا على القيام بعملية الإحلال والتبديل بين أفكار وعادات قديمة ضارة بأخرى نافعة.

اليوم نحن في طريقنا لحقل ألغام بعد أن مررنا من حقل الأشواك بسلام. فنحن سنتناول موضوع خطير ونقترب من خط أحمر في عقول كثير من المسلمين اليوم، ألا وهو التراث الفقهي الإسلامي. ورغم ما يبدو الأمر عليه من خطورة في الظاهر، إلا أننا لا نخشى حقل الألغام هذا، خاصةً وأننا تعلمنا أشياء مهمة من تجربتنا بالسير على حقل الأشواك. فلو عدنا بالنظر قليلاً، ولو رجعتم للمقالات الأربع الأخيرة، فيمكننا القول أننا تفاجئنا بحجم ردَّة الفعل الإيجابية على تجرأنا ومساسنا بأحد أخطر "المسلمات" الخاطئة في عقول أغلب المسلمين، ألا وهي اقتناعهم بأنَّ الإنسانية تتخلف وتنحرف مع الزمن. فبالصبر والتأنِّي وتناول الموضوع بشكل تدريجي وضعنا فيه مسلمات جديدة، سارت الأمور بشكل متسلسل، وما كنا نظنه حقل أشواك، صار مجرد طريق سالك لا وخز فيه.
اليوم، ومن خلال المقالات الأربع السابقة وردَّة الفعل الإيجابية من آلاف المتابعين الأكارم، يمكنني القول أننا حققنا نجاح عظيم ربما الكثير منَّا لا يدرك حجمه. فتقبل فكرة أنَّ جيلنا يملك كل الإمكانيات والحق في أن يكون أكثر تطور وتقدُّم معرفياً وأخلاقياً بالمقارنة مع الأجيال السابقة دون استثناء، فهذا أمر عظيم وإنجاز ضخم يستحق أن نفخر به جميعاً.
أتذكر عندما كنت صغيراً، فقد كنت مقتنع أنَّ الإنسانية تسير نحو الانحطاط والهلاك، وأنَّ الأجيال القديمة أفضل من جيلنا، وأننا مهما فعلنا فلن نصل لمستواهم. كان كل من حولي يردد نفس الكلام، والبيئة التي تحيط بي تتبنى نفس الفكرة، ولذلك، رسخ هذا في ذهني وأنا صغير على أنَّه مسلَّمة. لكن بمرور الوقت وعندما كبرت وتطور مستوى تفكيري، أصبحت أرى الأشياء من حولي بعيوني أنا وليس بعيون من حولي أو من سبقوني.
النتيجة كانت أنني مع الوقت أصبحت أرى عالماً مختلفاً وأصبحت أمتلك مشاعر مختلفة نحو حياتي وحياة الإنسان عموماً. ولمَّا وصلت لمرحلة النضج التي تخمرت فيها الأفكار والرؤية الجديدة بتفاعلها مع المنطق دون العاطفة، صرت شغوفاً راغباً في مشاركة نظرتي مع الآخرين، ولهذا أنتم هنا تقرأون ما أكتب.

 المهم هو أنَّ الآلاف من متابعينا الأفاضل استطاعوا أن يروا أنَّ الإنسانية تتقدم معرفياً وترتقي خلقياً وتطوَّر ذهنياً على عكس الصورة الذهنية التي تربينا عليها في مجتمعاتنا، بل ردة الفعل الإيجابية وبهذه الأعداد الكبيرة تجعلني أعتقد أنني قد وصلت متأخر، وأنَّ الكثيرين قد وصلوا للمفهوم الصحيح لطريقة تطوُّر الإنسانية منذ وقت طويل. وهذا طبعاً إنجاز ضخم فاق كل توقعاتي قبل أن ابدأ المشوار معكم. والآن ماذا عن التراث الفقهي الموروث؟ هل الخطأ فيه أم في نظرتنا له؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات بشكل صحيح ومنطقي، وبشكل نبعد فيه العاطفة وردَّات الفعل العاطفية، يجب أن نتذكر أننا هنا لا نقيم فقهاء التراث ولسنا بصدد وضعهم على الميزان، وإنما نحن هنا لنقيِّم نظرتنا نحن لهم ولنضع طريقة تعاملنا مع علومهم على الميزان. ففقهاء التراث بعمومهم دون تخصيص قد شكلوا نقطة تحول مهمة في التاريخ بما أسهموا ببحوثهم ودراساتهم وكتبهم في تطوير جيلهم. فهم اشتغلوا واجتهدوا وعملوا وكدُّوا. والنتيجة، أنهم كانوا على قمة الإنسانية في زمنهم لأنَّ غيرهم من الأمم كان راكداً وخاملاً لا يعمل؛ ولهذا فهم بعمومهم كانوا نقطة مضيئة للإنسانية، وطوَّروا مسيرة الإنسان كما كان مطلوب منهم.
وللتنبيه هنا، فعندما أقول فقهاء التراث، فأنا أقصد فقهاء كل المجالات سواء من اشتغل في التفاسير القرآنية أو الآراء الفقهية أو الطب والفلسفة والكيمياء والهندسة. تعنى كلمة فقهاء التراث كل هؤلاء العلماء في كل المجالات، والذين ظهروا في القرون ما بين القرن الثامن الميلادي والقرن الثاني عشر الميلادي.

  مشكلتنا ليست في فقهاء التراث و ما أنتجوه من علوم، وإنما في طريقة تعاملنا نحن مع هذه العلوم واجترارنا لها بشكل غير منطقي. فقهاء التراث هم أعلام عظماء في زمانهم يستحقون كل احترام على دورهم في دفع عجلة التطور في أجيالهم، لكن ما لا يستحق التقدير ولا أظنه مؤهل لنيل أي احترام هو اجترارنا نحن لعلومهم وكتبهم بعد أكثر من 1000 سنة على موتهم وفناء أجيالهم. لا نستطيع أن نحترم هذا أو نتقبله. أين إسهاماتنا نحن؟ ماذا أضفنا للعلوم وللحضارة الإنسانية؟ لماذا لازلنا نجتر الماضي والحديث عنه كمُسكِّن لآلامنا كلما حسسنا بألم وحسرة على حالنا ونحن نرى أننا نتذيل كل حسن ونتربع على عرش كل قبيح؟ بالمقارنة بباقي الأمم، فنحن لم نقدم شيء لا في الطب ولا الهندسة ولا الفلسفة والكيمياء والقانون ولا الفقه ولا حتى تفسير وتدبُّر القرآن! نحن فقط نجتر الماضي بكتبه و فقهاءه ونقتات على ذكريات ما صنعوه وقدَّموه. المشكلة فينا نحن وليست في التراث ولا فقهاءه.

وعلى الرغم من أننا لم نقدم شيء في الفيزياء أو الطب، إلا أننا لا نُدرِّس أفكار ابن سيناء وابن الهيثم لطلابنا في المدارس لعلمنا أن علومهم وأفكارهم كانت عظيمة في زمانهم لكنها ما عادت تصلح لزماننا. ولذلك نذهب لكتب الطب والفيزياء الحديثة لتدريس أبنائنا الطب والفيزياء. والمفارقة العجيبة هي أننا لم نقدم شيء في الفقه الديني ولا في تدبر وتفسير القرآن، ومع هذا نُدرِّس أبنائنا كتب الشافعي وكتب ابن كثير وغيرهم.
الأعجب أننا مقتنعون أنَّ باب الاجتهاد قد أُقفِل ودفن مفتاحه مع آخر فقهاء التراث وصار على كل البشر أن يجتروا كتب وفقه الأولين إلى يوم القيامة. أعرف أنَّ البعض يدور في ذهنه أنَّ الدين يختلف عن الهندسة والطب، لكن هؤلاء لا يدركون أنَّ الهندسة والطب أيضاً تختلف عن الكيمياء والفيزياء، وأنَّ الفيزياء والكيمياء تختلف عن علم الاجتماع والتاريخ، العلوم كلها تختلف. وخمِّنوا معي ماذا أيضاً؟ العلوم كلها تتطوَّر وتتغيَّر مع الزمن. لا يوجد علم يجمد ويتجمد إلا وجمَّد حال الناس الذين جمَّدوه. فلو توقفنا عن تطوير علوم الهندسة والطب وصرنا نجتر كتب ابن سيناء وابن الهيثم، ماذا تتخيلون أن يحدث؟ ستحدث النتيجة الطبيعية حسب قوانين الحياة الإنسانية، وهي أننا سنتخلف في الطب والهندسة وسنموت من أبسط الأمراض لأنَّ كتب ابن سيناء لا تعالج الكثير منها. وسنستمر في ركوب الدواب، لأنَّ كتب ابن الهيثم لا ينفع استخدامها لصناعة السيارات.

الفِقه الإسلامي يكافئه علم القانون في زمننا، فقهاء مثل الشافعي وأبو حنيفة  ومالك هم فقهاء قانون. أعقِلوها وفكِّروا بها قليلاً. كل ما فعله الشافعي وأبو حنيفة ومن نحى نحوهم، هو أنَّهم وضعوا قوانين ما يجوز وما لا يجوز وما يعتبر جناية تستوجب العقاب (الحدود) وما لا يعتبر جناية. فقه الفقهاء هو إسهامهم في علم القانون وحتى في أقسام القانون في جامعاتنا اليوم يتم تناول فقه الشافعي ومالك وأبو حنيفة على أنه علم قانون. نحن جمَّدنا علوم القانون. والنتيجة، أننا نعيش تخلف قانوني رهيب، وبلداننا هي أكثر دول العالم فساداً وأقلها انضباطاً واتباعاً للقانون. وهذه نتيجة طبيعية، لأننا مازلنا نجتر كتب الفقه والتي هي كتب القانون في زمن من كتبوها، وصرنا نطبِّقها اليوم على أنَّها القوانين التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز.
 تخيلوا أنَّ الشافعي لم يرى نمط حياتنا ولا يعرف شيء من تفاصيل عيشنا ولم يتعلم 1% من العلوم التي تعلَّمناها، ومع هذا هو مازال المصدر الرئيسي لتحديد ما يصلح بنا وما لا يصلح! نحن بحاجة لفهم أنَّ القرآن كتاب الله أتاحه لكل جيل لكي يفهمه ويتدبَّره حسب ما وصل إليه مستواه المعرفي والأخلاقي؛ وبالتالي نحن لسنا بحاجة لكتب فقهاء التراث لكي نجعلها واسطة بيننا وبين القرآن. فكما كان لهم عقول، فلنا مثلها وأفضل، فلماذا نجتر فِهم الأوَّلين؟ تكاسُلنا عن العمل على الفِهم والتدبُّر بعيوننا جعل المطاف ينتهي بنا إلى أن تجمدنا وصرنا خارج حركة التاريخ منذ قرون. لم يعد لنا أي مجال لنفعل شيء، وصِرنا المفعول به الوحيد في العالم ويتحكم بنا كل من أمسك بزمام أمور الكوكب. وسيظل هذا حالنا حتى نتغير من داخلنا ونرى أنفسنا بشكل صحيح، ولذلك، نحن هنا نحاول أن نجد طريقنا للتغيير.

سنكتفي بهذا القدر ليومنا هذا على أمل أن نستمر في المسير نحو حياة ملئها #السعادة. حياة نكون فيها فاعلين غير مفعول بنا. نريد أن نتوقف عن فعل نفس الشيء منتظرين نتائج تختلف عن واقعنا.

أعرف أنَّ حقل الألغام هذا قد يكون خطير، لكنَّ الأخطر هو أن نبقى في القاع ساكنين مستكينين مقتنعين أننا لسنا مؤهلين للتفكير بعقولنا ورؤية الأشياء بعيون عصرنا. هو أفضل من أن نستمر في اجترار الماضي بازدراء أنفسنا بالظن أنَّ دورنا حسب دورة الحياة، أن نزيد على تخلف آبائنا قدراً جديداً من التخلف وأن ننتظر من أبنائنا أن يكونوا أكثر تخلفاً منَّا.

سنتابع رغم كل شيء، وكلنا ثقة أنَّ صوت المنطق أعلى من ضجيج المعترضين النيام. فهم نيامٌ لا يُفِيقون حتى ننطق بالحق، حينها ستدُّب فيهم الروح وتسمع ضجيجهم رغم أنهم نيام. 
.
سنستمر في مشوار التغيير، في طريق #السعادة، صوب نيل الريادة.. فتابعونا.
_____________
ملاحظة: قد اضطر لظروف السفر أن أتوقف عن النشر في الأيام الثلاث القادمة على أن نعود بإذن الله يوم السبت للنشر من جديد.
فمازال لدينا ما نقول.. تحياتي لكم جميعاً

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة