محور فهم أنفسنا وما حوَّلنا: مسلَّمة تراكم المعرفة
سنستمر اليوم في رحلة السعادة بعد أن وصلنا لمحطة تدريب العقل على استدعاء السعادة من القلب ليصبح الشعور بالراحة والاطمئنان هو السائد في حياتنا مهما تغيرت من حولنا الظروف، فقلب مليء بشعور السعادة وبروح الاطمئنان يمكنه أن يعمل بجد ويخترق جدران المستحيل ويُطوِّر الحياة بشكل أفضل بكثير من عقل لا يجد إلا اجترار مشاعر الحزن والقلق من قلب صاحبه.
فبالأمس قد تناولنا أول المسلمات التي نحتاجها كي نعوِّد عقولنا على استدعاء المسلَّمات والمنطق الإنساني المشترك بدل استدعاء العواطف عند التفكير واتخاذ القرارات. ومسلمتنا الأولى كانت بعنوان "تطور الإنسانية" وفي هذا السياق تناولنا فكرة أنَّ الإنسانية تتقدم مع حركة عجلة الزمن للأمام، مما يعني أنَّ الإنسان يرتقي معرفياً وقيمياً مع تقدم الزمن وقدوم أجيال جديدة.
لاحظنا من خلال التعليقات أنَّ هناك من يعترض ويتصور أنَّ الإنسان يسير نحو الأسفل ويتدهور مع مرور الزمن وقدَّم مثال الفراعنة والأهرامات كمثال على أنهم يثبتون أنَّ الإنسانية تسير للأسوأ وليس للأفضل. بطبيعة الحال أتفهَّم وجهة نظر بعض الأصدقاء، ولكن نحن هنا نريد أن نبني حقائق ونؤسس بناء صلب يقوم على أرضية صلبة، ولهذا لا مكان للمجاملات وليس لنا خيار إلا أن نقول أنَّ رأي أصدقائنا هؤلاء لم يكن موفقاً، فنحن نتفق معهم على أنَّ الفراعنة قد تفوقوا على وقتهم ولكنهم لا يُعدون شيء في زماننا. الأهرامات وتحنيط الموتى كان من العجائب في زمانهم، ولكنه اليوم شيء عادي جداً لأننا نملك تقنيات حديثة ومعدِّات وتكنولوجية يمكن بها بناء نفس الأهرامات ومثلها مقلوبة. اليوم لدينا علوم حديثة نتمكن بها من حفظ الموتى كما هم بدون تغيير في ملامحهم لملايين السنين إن أردنا ذلك. نحن في مقالنا السابق كنَّا نقصد أن الإنسانية تتطور بشكل مستمر، وتتفوق على نفسها من جيل لآخر. وهذا أمر يمكن لأي عقل مدرك أن يتوصل إليه بسهولة ولهذا سميناه من المسلمات. واليوم نحن أصلاً سنتناول مسلمتنا الثانية، والتي هي بناء على مسلمتنا الأولى أو حتى يمكن أن نقول أنَّها مسلمة شارحة لها. فمسلَّمة اليوم هي مسلَّمة تراكم المعرفة.
مسلمة تراكم المعرفة هي أيضاً أمر منطقي عقلاني بسيط وواضح جداً لا يختلف عليه اثنان يحتكمان للمنطق الإنساني المشترك، ولهذا نسميها هنا مسلَّمة. والأمر ببساطة يعني أنَّ ما يعرفه جيل اليوم من علوم ومعلومات، هي محصلة ما تراكم من علوم ومعارف الأجيال السابقة.
على سبيل المثال، أجيال الإنسان قبل ما يقارب الـ 10,000 سنة تعلموا الزراعة وبدأوا بممارستها بشكل بدائي بسيط. بمرور الوقت، استطاعت الأجيال التالية أنَّ تتعلم نفس ما توصل إليه إنسان ما قبل 10,000 سنة من خلال توارث معرفتهم الزراعية، ثم زادوا عليها بعض التقنيات كأدوات للحرث أكثر كفاءة وأساليب بذر أسرع وأنجح.
ومرَّت الأجيال التي توارثت ما توصل إليه الأولون، وزادوا عليها التسميّد وطرق ري وحصاد لم تكن موجودة في الأجيال السابقة، وهكذا دواليك حتى صرنا اليوم نزرع حقل ضخم في يوم واحد باستخدام آلات زراعة أوتوماتيكية حديثة بطريقة فعالة يديرها شخص واحد أفضل بكثير من طرق الأوَّلين الذين كانوا يحتاجون لأسابيع من العمل الشاق وجيش من العمال لزراعة نفس الحقل وبكفاءة أقل بكثير. وهذا لو نظرنا للزراعة فقط، أمَّا لو انطلقنا لباقي المجالات مثل التعدين وصناعة الأخشاب والطب والهندسة والتعليم وكل مناحي الحياة العملية التطبيقية، فسنرى بكل وضوح أنَّ كل جيل يتعلم من الجيل السابق ما وصل إليه ثم يزيد عليه. ليأتي الجيل الذي يليه ويتعلم ما تعلموه وما زادوه ثم يقومون هم بالزيادة عليه، وهكذا دواليك من عملية تطور في المعرفة ناتجة عن تراكم العلوم والمعارف من جيل للذي يليه والذي يطوِّر ويزيد ويعلم الجيل التالي لهم.
هذه مسلَّمة من أوضح وأسهل ما يمكن تصوره والتفكير فيه. فالعلوم تتراكم والمعرفة تتطور مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال جيلاً بعد جيل. ولهذا فإننا لا نحتاج لكثير عناء في مقال اليوم لنثبت ما هو واضح بشكل كبير، ولهذا نحن نسميه مسلمة ألا وهي "تراكم المعرفة". أهمية هذه المسلَّمة ستأتي لاحقاً عندما نناقش فكرة أنَّ كل جيل يعرف أكثر وأفضل من الجيل الذي سبقه، وأنَّ مستوى الوعي والإدراك؛ وبالتالي التطور الذهني هو في تصاعد مستمر مع الزمن ولا يمكن أن يعكس الاتجاه. فعلى سبيل المثال جيل اليوم يملك إمكانيات ذهنية أكبر من جيل ما قبل 1000 سنة لأنَّ مستوى الإدراك ارتفع كثيراً نتيجة تراكم هائل للمعرفة على مدى 1000 سنة، وكذلك لأنَّ أذهان جيلنا احتكت بأمور أكثر تعقيداً بكثير من جيل ما قبل 1000 سنة والذين كانت أذهانهم تحتك بأمور ابسط بكثير من ما تحتك به أذهاننا اليوم. فمثلاً عقول أطفالنا اليوم تحتك بمسائل رياضية في الجبر والهندسة لم يكن يستطيع جيل ما قبل 1000 سنة حتى محاولة التفكير فيها عدى بضعة أنفار هنا وهناك من العباقرة في حينه. أي أنه قبل 1000 سنة كان يجب أن تكون عبقرياً ليستطيع ذهنك التعامل مع مسائل بدائية في الجبر والهندسة، بينما الغالبية العظمى من أطفالنا اليوم تحتك أذهانهم كل يوم في المدرسة بمسائل جبر وهندسة هي معقدة جداً ومستعصية على الفهم لعامة الناس في جيل ما قبل 1000 سنة. هذا الفرق ليس لأننا خلقنا عباقرة وهم خلقوا أغبياء، كل ما في الأمر أنَّ المعارف في زماننا والاحتكاك الذهني تعرض لتراكم كبير لعلوم 1000 سنة تسبب في تطوير أذهننا، وتفوق طرق تفكيرنا بالمقارنة مع جيل ما قبل ألف سنة الذين لم يتراكم عند زمنهم إلا القليل من العلوم والبسيط من الأفكار.
الخلاصة هي أنَّ تطور الإنسان معرفياً وذهنياً مع الزمن هو أمر مسلَّم به نتيجة لمسلمة تراكم المعرفة التي تناولناها. وكما قلنا، فإنَّ أهمية هذه المسلَّمة ستأتي لاحقاً عندما نعود لتناول أنَّ العقل الإنساني يميل بطبيعته لمقاومة التغيير. والتغيير هو أساس التطوير ولهذا لن نتطور حتى نقبل مبدأ التغيير. ولن نقبل مبدأ التغيير حتى نعرف أن كل شيء يتطور ويكبر وينمو مع الوقت وأنَّ الجمود على ما نحن عليه سيتركنا في مؤخرة الركب و يجعلنا عالة على الأمم التي تقبل التغيير وتسير نحو التطور. لذا انتظرونا بالمزيد من المسلمات لنستكمل بناء مخططنا لرحلتنا نحو #السعادة.. ودمتم سعداء.
No comments:
Post a Comment