سياقات القرآن وآفة الاقتطاع
بعد ما أمضينا اليومين الماضيين في مناقشة القاعدة الثانية في منهجيتنا لتجديد فِهم وتدبُّر القرآن الكريم، سننتقل اليوم للقاعدة الثالثة والتي تقول:
(أن نفهم الآيات ضمن سياقها وليس باقتطاع الجُمل وعزلها عمَّا قبلها وما بعدها من الآيات والجُمل)
وكالعادة و قبل أن أخوض في موضوع اليوم، أحب أن أذكِّر المتابعين الأكارم بأننا حالياً نتدارس القواعد السبع لمنهجية تجديد فِهم وتدبُّر القرآن الكريم. فقد غطينا في الأيام السابقة القاعدتين الأولى والثانية، واليوم ننتقل للثالثة.
ولمن فاته متابعة المقالات السابقة، فنسترعي انتباههم بأن كل المقالات السابقة موجودة في مدونة الصفحة التي تجدون رابطها في نهاية هذا المقال.
والآن دعونا ندخل على موضوع اليوم والذي هو سياقات النص القرآني وآفة الاقتطاع، فأحد أسوء الممارسات التي تقود لتحريف المعاني القرآنية هي ممارسة اقتطاع آية أو جملة قرآنية وعزلها عن محيطها وسياقها، وبالسياق نعني الآيات والجُمل قبل وبعد الآية أو الجملة التي يتم تفسيرها. ورغم وضوح خطأ هذه الممارسة، إلا أنها أحد أكثر الأخطاء انتشاراً عند فهم وتدبُّر القرآن الكريم، وليس الأمر مقتصر على وقتنا الحالي فقط، وإنما أيضاً كان خطأ شائع في كل القرون والعصور منذ نزول القرآن، ولكثرة ممارسة هذا الخطأ الشائع، فسيكون من السهل تقديم أمثلة عديدة على هذه الممارسة الخاطئة.
ولكن قبل أن نقدم تلك الأمثلة دعونا نوضح بعض الأمور لكي نفهم كل الأبعاد الممكنة لم تمارس عملية الاقتراحات على سبيل المثال، فمن المعروف أنه أي متحدث عندما يتكلم ويقول جملة مكونة من عدَّة كلمات، فإنَّ المتكلم لا يقصد أن يبلغ السامع معاني الكلمات المفردة، وإنما معنى مترابط ينبني على الجملة كاملة. فمثلاً لو قال أحدهم "سيكون الضرب بيد من حديد على كل من يحلم بقطع الطريق". طبعاً الجملة واضحة للجميع، وربما لن يفهمها أحد بغير معناها الواضح وهو أن المتكلم يهدد بمعاقبة كل من يعتدي على المارين من طريقٍ ما. لكن لو فسرنا معنى الجملة حسب المعاني المفردة ، فسوف نخرج بمعنى مختلف تماماً عن المعنى الذي نعرفه جميعاً. ولتوضيح الرؤية، لو أخذنا الجملة ووضعناها في موقع ترجمة على الإنترنت، فسوف يتم ترجمة هذه الجملة بشكل غير صحيح لأنَّ برامج الترجمة تعتمد على معاني المفردات منعزلة وليست ذكية بالكفاية لكي تميز المعنى على جملة بكاملها خاصة إذا كانت مكونة من أكثر من 3 كلمات. فدعونا مثل نضع هذه الجملة في موقع جوجل للترجمة و لنترجمها إلى اللغة الإنجليزية، النتيجة ستكون كالتالي:
"Anyone who dreams of cutting the road will be beaten with an iron hand"
ولمن لا يعرف اللغة الإنجليزية بشكل كافي، فسوف نقوم بوضع هذه الجملة من جديد في موقع الترجمة لنعيد ترجمة الجملة الإنجليزية إلى اللغة العربية و سنحصل على النتيجة التالية:
"أي شخص يحلم بقطع الطريق سوف يتعرض للضرب بيد حديدية"
من الواضح أنَّ الجمل الثلاث تحمل كل منها معنى مختلف عن الأخرى والسبب هو أنَّ برامج الترجمة تعتمد بشكل أساسي على ترجمة المفردات والجمل القصيرة ولهذا تعجز عن إعطاء ترجمة صحيحة كلما كبرت الجملة أو احتوت على معاني اصطلاحية مركَّبة، والخلاصة هي أنَّ الاقتطاع يأخذ عدة أشكال منها اقتطاع جملة من سياقها القبلي والبعدي، أو اقتطاع معاني مفردة من جمل اصطلاحية مركبة، في كلا الحالتين لاتفاقية سنخرج بمعاني غير صحيحة لما يقصده المتكلم.
دعونا الآن نأخذ بعض الأمثلة على آفة الاقتطاع عند تفسير القرآن وسن يبدأ بآية كررها بعض المعلقين على المقالات السابقة قاصدين بها شيء وهي أصلاً تعني شيئاً آخر، فقد تم تكرار اقتطاع النص القرآني الأتي من سياقه القبلي والبعدي الذكر ذكر المعلقين النص القرآني المقتطع الآتي:
(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)
وكان قصد المعلقين هو أن يقدموا دليل قرآني على أنَّ القرآن ناقص، وأن شرحه وتفسيره لا يتم إلا من خلال الرسول في اعتراض منهم على قولنا أنَّ النبي لم يفسر القرآن، ولأنهم يريدون أن نستمر في اجترار المرويات الظنية لنجعلها حاكمة على القرآن القطعي. عموماً هم مارسوا اقتطاع جملة قرآنية عن سياقها القبلي والبعدي وخرجوا بمعنى لا علاقة له بالسرد.
وإليكم سياق هذا النص القبلي والبعدي في التالي:
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۖ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)
بالطبع نحن لم نبالغ بسرد كل هذا السياق قبل و بعد النص القصير الذي تم اقتطاعه. بقراءة السياق كاملاً سنجد أنَّ المقصود من النص القصير المقتطع (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، المقصود من هذا النص هو أنَّ الله يقول لأصحاب النبي أن يقبلوا بقسمة النبي للغنائم، وأن يأخذوا ما آتاهم و ينتهوا عن أخذ ما نهاهم عن أخذه.
نص مباشر واضح وصريح، ولا يحتاج حتى لكثير تفكير للوصول لما يعنيه النص. أقرأوا السياق الكامل في الأعلى من الآية 2 في سورة الحشر إلى الآية 7 من نفس السورة وسترون كم هو واضح معنى ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) لكن كثير من المتمسكين بما وجدوا عليه آبائهم ويرفضون التغيير لأنه يختلف عما تعودوا عليه وتم تلقينه لهم، كثير من هؤلاء يفسرون النص القصير المُقتطع على أساس أنَّ الله يقول لأصحاب النبي عليكم بطاعة الرسول التامة وأنَّ كل ما يأمركم به عليكم باتباعه، وأنَّ كل ما ينهاكم عنه عليكم بالانتهاء عنه.
وبغض النظر عن دقة المعنى الذي يسوقونه من عدمه، إلا أنه لا علاقة له بالآية لأنَّ سياق الآية يدل بشكل قاطع لا لبس فيه بأن الله يقول لأصحاب النبي أن يأخذوا ما آتاهم النبي من الغنائم وأن يمتنعوا عن آخذ ما نهاهم عن أخذه من الغنائم وشتان بين المعنيين.
والآن دعونا نذهب للنوع الثاني من الاقتطاع والذي يتم بتفسير النص بالمفردات وليس بالسياق المركَّب للنص. كمثال دعونا ننظر لمعنى كلمة "ضرب". فالفعل ضرب ومشتقاته ورد في القرآن 54 مرة، وبعدَّة معاني مختلفة مثل الضرب في الأرض بمعنى السفر، وضرب المثل بمعنى إعطاء مثال، وأيضاً الضرب الفيزيائي أي أن يضرب شخص شخصاً آخر وغيرها من معاني فعل "ضرب". لو نظرنا للـ 54 مرة التي ظهر فيها فعل "ضرب" ومشتقاته فسوف نجد أنَّ 10 منها فقط تحمل معنى الضرب الفيزيائي وهو المعنى الشعبي الشائع لكلمة الضرب في الوقت الحالي. لكن وبما أنها ظهرت في القرآن 54 مرة، فهذا سيعني أنها وردت 44 مرة بمعاني أخرى غير معنى الضرب الفيزيائي. ما يعني أنَّ مفردة "ضرب" غالباً سيكون معناها أبعد من أن يكون الضرب الفيزيائي. المنطق يقول أنه عندما نحاول فهم القرآن، فمن الطبيعي أن ننظر للسياق ولا يوجد عاقل يفسر القرآن على أنَّ آياته جزر معزولة. ولهذا لفهم معنى مفردة "ضرب"، يجب النظر للسياق العمودي ضمن الآيات المجاورة قبل وبعد، والنظر في السياق الأفقي ضمن المعاني العامة للقرآن وضمن طريقة استخدام المفردة على طول الكتاب وعرضه.
فلو أخذنا على سبيل المثال قوله تعالى (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)، فإن معنى كلمة "اضربوهن" لا يمكن أن يكون الضرب الفيزيائي خاصةً أنَّ القرآن استخدم مفردة "الضرب" ومشتقاتها بمعاني أخرى غير الضرب الفيزيائي في أكثر من 80% من جميع مرات ظهور كلمة الضرب في القرآن. ومن جهة أخرى، فإنَّ ما يجعل تحميل معنى "اضربوهن" على معنى الضرب الفيزيائي يعتبر خطأ، هو تعارض ضرب الزوج لزوجته مع السياق العام الأفقي للقرآن. ما أقصده هنا هو أنَّ كليات القرآن وصوره العامة التي يرسمها على طول الكتاب وعرضه تتعارض مع تفسير المفردة على أنها الضرب الفيزيائي. فمن المعروف للجميع أنَّ أحد أهم وأكبر المبادئ التي يرسمها القرآن هي عدم الإكراه. فلا يوجد شيء في القرآن يسمح بإجبار أحد على طاعة الله وعبادته والأدلة على ذلك كثيرة ليس أقلها قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وبالتالي من غير الممكن وغير المنطقي أن نتخيل أنَّ القرآن لا يسمح بأن يقوم شخصٍ ما بإكراه شخص آخر على طاعة خالقه أو الإيمان به، ثم يعطي الحق لرجل أن يكرِه زوجته على طاعته بضربها! هذا غير ممكن. لا يمكن تصور هذا. ولذلك، فإننا بطريقة علمية منطقية سنكتشف أنّ "اضربوهن" تعني معاني أخرى قد يكون الأقرب منها للسياق ولكليات ومبادئ القرآن العامة هو "اضربوهن" أي "ضعوا لنشوزهن حداً" مثل معنى مفردة الضرب التي جاءت في قوله تعالى (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ).
إنَّ أن الضرب في هذه الآية يعني بكل وضوح وضع حاجز وحد لكي لا يتجاوزه المنافقين. المهم عندنا هنا، بغض النظر عن المعنى الصحيح لمفردة "اضربوهن"، المهم هو أنه من المستبعد أن تكون الضرب الفيزيائي لأنَّ فعل "ضرب" ورد أكثر من 80% من مرات وروده في القرآن بمعاني أخرى غير الضرب الفيزيائي. والأهم هو أنَّ ضرب الزوج لزوجته لإكراهها على طاعته ينافي مبدأ عدم الإكراه الثابت في كتاب الله عز وجل، فلا يمكن تقبل فكرة أن الله يأمرنا بألا نكره أحد على الإيمان به وطاعته، وفي نفس الوقت يعطي حق إكراه الزوج لزوجته على طاعته بالقوة والعنف.
لا يمكن قبول أنَّ القرآن متناقض لهذا الحد ولهذا، فإنه عندما نريد أن نفسر الآية، سنكتشف أن اقرب معنى لكلمة "اضربوهن" هو أن نضع لنشوزهن حداً كما ورَد هذا المعنى في سورة الحديد بما بيَّناه أعلاه.
خلاصة القول هو أنَّ إهمال السياق هو إهدار للمعنى وبالتالي سيقود لتدبر وفِهم غير صحيح للقرآن وللدين عموماً، ولهذا من أحد أهم قواعد منهجية تجديد فِهم وتدبُّر القرآن هو أن ننظر بتمعن للسياق الذي ورد فيه النص بحيث نضع النص ضمن المعنى الصحيح المتناسق مع السياق القرآني المجاور للنص قبلاً وبعداً.
نكتفي بهذا القدر اليوم على أمل أن نستمر غداً في مشوارنا لعلنا نصلح ما أفسده التقليد الأعمى والكسل حتى صرنا شعوب متخلفة لا تعرف #السعادة.. فتابعونا
No comments:
Post a Comment