التفاعل مع تعليقات مقال عرض الروايات على المنطق الإنساني المشترك

التفاعل مع تعليقات مقال عرض الروايات على المنطق الإنساني المشترَك

في مقال اليوم سوف نتفاعل مع التعليقات والأسئلة الواردة على موضوعنا الأخير والذي تناولنا فيه القاعدة الثانية من قواعد منهجية التعامل مع الروايات. فكما تعلمون، فإنَّ القاعدة الثانية تأتي في الترتيب ثانياً كأداة تقييم لإمكانية الأخذ برواية ما أو تركها. فالمقياس الأول للتقييم سيكون هو عرض الرواية على القرآن، فإن لم يكن هناك ما يعارضها في القرآن، يتم بعدها عرض الرواية على المنطق الإنساني المشترك أو ما يمكن أن نسميه "العقل". وهنا تبرز نقاط مهمة نحتاج للتعليق عليها من خلال العرض التالي:

كعادة السلفيين ومن يدور في فلكهم أو يتعاطف مع أفكارهم، فإنَّ هذه القاعدة تمثل بالنسبة لهم رعب وارتباك وحتى غضب. فالسلفيين وكل تيارات التطرف لديهم ما يسمونه قاعدة تقول "تقديم النقل على العقل".  بالطبع عندما نطبق قاعدتنا الثانية والتي نعرض فيها الرواية (النقل) على العقل، فإننا بذلك نكون قد خالفنا أحد أهم قواعد منهجهم التقليدي في التقليد.  فحسب منهجهم فإنَّ النقل، وعلى رأسه الروايات، يجب أن يحجب العقل لأنهم يعتقدون أنَّه يجب عليهم "التسليم" والسمع والطاعة و"الاتباع" حتى لو لم يكن الأمر معقول. كمثال، رواية رجم القرود التي تناولناها في المقال السابق هي نقل، ورغم أنها غير معقولة وتصطدم بالمنطق والعقل، إلا أنَّ منهجهم يدعو للتسليم بها واستخدامها كأحد الأدلة لإزهاق النفس البشرية بطريقة وحشية بشعة برميها بالحجارة حتى الموت.

طبعاً يمكن ببساطة إثبات فساد هذا المنهج اللاعقلي الذي يطلب من الإنسان التجرد من عقله في حضرة الروايات. هم يستخدمون مصطلحات مثل "التسليم" و"الاتباع" لإقناع أنفسهم والآخرين بأنَّهم يقومون بالعمل الصواب عندما يعطلون عقولهم. لكن دعونا نحلل هاذين المصطلحين ولنسأل أنفسنا هذا السؤال المهم. "التسليم لمن واتباع من؟" 
لو نظرنا للقرآن فسنجد بكل وضوح وبدون لف أو لي لأعناق الآيات، أنَّ التسليم لا يكون إلا لله الحق، فالتسليم لا يكون إلا للحق المبين وليس هناك أحق من الله الحق وحده لا شريك له. حتى الأنبياء أنفسهم نحن لا نسلم لهم، وإنما نسلم لله الحق الذي لا ريب فيه وليس أدل على ذلك من بعض هذه الآيات المختارات في كتاب الله جل في علاه:
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

التسليم بمعنى الانصياع والخضوع لا يكون إلا للخالق الحق جل في علاه وليس لمخلوق. ولو ركزنا على الآية الأخيرة بخصوص ملكة سبأ، فهي سلّمت مع سليمان ولم تسلّم لسليمان عليه السلام، فهناك فرق كبير بين أن تسلّم لسليمان وبين أن تسلّم معه. فهي أسلمت مع سليمان بمعنى أنها انضمت لسليمان في تسليمه لرب العالمين. وبالتالي مصطلح "التسليم" الذي يستخدمه السلفيون والمتطرفون لإقناع أنفسهم أو إقناعنا بأنه يجب علينا "التسليم" لما جاء في الروايات هو مصطلح مضلل يستخدمه شيوخهم عن جهل أو للتجهيل. 

الروايات ظن ولم تكن يوماً ما يقين. الحق لا ريب فيه، والروايات ليست حق لأنها ظنية لا تغني عن الحق شيئاً. ألم يسمع هؤلاء قول الله جل في علاه عندما قال (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)؟ ألا يعلمون أنَّ كتاب الله هو الكتاب الوحيد الذي يوصف بأنه الحق الذي لا ريب فيه وأنَّ كل كتاب غير كتاب الله فيه ريب؟ حتى فقهاء السلف كلهم عليهم رحمة الله ليس فيهم من رفع كتاباً غير كتاب الله لدرجة اللاريب. كلهم يعلمون أنَّ الكمال لله ولكتاب الله وأنَّ النقص والريب في غير الله وكل كتابٍ غير كتاب الله جل في علاه.
وبالتالي فإنَّ مصطلح "التسليم" الذي يستخدمه السلفيين والمتطرفين هو مصطلح مضلل باطل لأنهم يريدوننا أن نسلّم للروايات تسليماً وكأنها حقاً مبيناً، وهي كلها من أولها لأخرها ظنية الثبوت فضلاً عن كونها كلام بشر. وقد تناولنا من قبل مسألة أنَّه لا وحي يخص الدين الملزم لنا إلا في كتاب الله فقط لا غير وقدَّمنا على هذا الكثير من الأدلة والمقالات. ولهذا فإنَّ التسليم العقلي لا يكون إلا لله الذي ليس لنا ما ننسب له غير القرآن العظيم فقط لا غير.

أما مصطلح "الاتباع" فهو أيضاً يستخدمه السلفيون والمتطرفون لخداع أنفسهم أو خداع الناس وهم أصلاً لا يعرفون ما يفعلون. فليس كل اتباع حق خاصة إذا كان هذا الاتباع هو اتباع الآباء والتجمد على التراث والموروث. وإليكم نماذج "الاتباع" للأولين في القرآن في قوله تعالى:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)
(اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ)
(ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)

ليس كل اتباع محمود خاصة إذا كان تقليداً أعمى لآبائنا الأولين. فالتقليد الأعمى لما جاء به الأولون يؤدي للتحجر والجمود ويقف عثرة في طريق التقدم والتطوير في الفكر الإنساني وفي حياة الإنسانية بشكل عام. "الاتباع" الحق يكون كما وصفه الله تعالى في قوله:
(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
(ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ)
(قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
(قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)

آيات كثيرة جداً تتكلم عن اتباع الحق المبين وليس الظن. هذا هو الاتباع، وهو أن نتبع الحق الذي لا ريب فيه والذي نعلم يقيناً أنه لا يوجد إلا في كتاب الله. من يدعي بأنَّ هناك شركاء لكتاب الله يدعي أن فيها الحق المبين وأنه لا ريب فيها، فهو لم يكذب علينا فقط، بل ويُكذِّب قول الله جل في علاه عندما قال (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). نحن أنفقنا أسابيع طويلة لتقديم أدلة قاطعة ومسلَّمات أثبتنا من خلالها ظنية كل الروايات على بكرة أبيها، وأنها لا يمكن أن ترقى لدرجة اليقين وأنَّ فقهاء السلف كلهم اجتمعوا على أنه لا يوجد حق قطعي الدلالة إلا كتاب الله جل في علاه وأنَّ كل الروايات هي ظنية لا يقين لصلتها برسول الله، ولذلك، فإنَّ اتباع الروايات والتسليم لها هو شِرك بالله، ولكن أكثر السلفيين لا يعلمون. فحالهم كحال من قال فيهم الله جل في علاه (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).
.
الخلاصة هي أنَّ أغلب المعترضين على قاعدة عرض الروايات على المنطق الإنساني المشترك والتي نعني بها اختصاراً عرضها على العقل، المعترضين على هذه القاعدة حجتهم الكبرى هي أنهم يرون أنَّ الروايات الظنية مقدمة على العقل لأنهم يظنون أنه يجب التسليم والاتباع لما جاء في الروايات الظنية. و قد بيَّنا أعلاه أن "التسليم" و"الاتباع" هما مصطلحان لطالما تم تضليل عوام السلفية بها وضل بهم كل من سمع لهم وعطَّل عقله.

في الختام أتمنى أن تكون فكرة حجية العقل وعلّوه على الروايات الظنية أصبحت واضحة وبالتالي فإنَّ عرض هذه الروايات على العقل هو العمل الرشيد الذي يُلّزِمُنا الله به. 
الله عدل ..... الله حق .... ولا يمكن أن يُلزمنا إلا بالعقل وليس بالظن ..... فلو تركت رواية ظنية مهما تغزلوا في صحة سندها، فلن يحاسبني الله على تركها لأنها ظن والله لا يحاسب على الظن. ما سيحاسبنا الله عليه هو أن نعطل عقولنا ونسير خلف الظن على عمى.
مسيرتنا مستمرة نحوها. نعم.. نحو #السعادة.. ومن غيرها؟!.. فهي وجهتنا ودوامها هدفنا.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...