عرض الروايات على المنطق الإنساني المشترَك (المقال المُختصَر)
وصلنا اليوم بفضل ربنا عز وجل للمحطة الثانية في قواعد منهجية التعامل مع الروايات. فكما رأينا بأنَّ القاعدة الأولى هي عرض الرواية على القرآن كآيات وككليات بحيث نتأكد من إمكانية الاستفادة من الرواية من عدمه. وكما وضَّحنا سابقاً فإنَّ منهجيتنا تعرض الرواية على ثلاث مراحل من التصفية والتنقية تتمثل في القواعد الثلاث الأولى من قواعدنا الخمس. و بيَّنا أيضاً أنَّ القواعد الثلاث الأولى تعمل بشكل مرتب ومتعاقِب، بحيث أنَّ الرواية يجب أن تُعرض أولاً على القرآن، فإن مرت فهذا يعني أنها مرت لمرحلة الاختبار الثانية وهي موضوعنا اليوم. اليوم نعرض القاعدة الثانية ومحطة الاختبار الثانية و التي هي:
(القاعدة الثانية: عرض متن الرواية على المنطق الإنساني العقلي المشترَك)
وهنا بطبيعة الحال فإنَّ الرواية قد مرت من اختبار عرضها على القرآن بحيث أننا لم نجد أي تعارض بين الرواية والقرآن لا على صعيد السياق العمودي لآية أو مجموعة آيات متجاورة، و لا على السياق الأفقي على طول الكتاب وعرضه الذي يرسم كليات القرآن. الخطوة التالية يُفترض أن تكون عرضها على المنطق الإنساني العقلي المشترَك. وهنا ركزت على ثلاث مفردات مهمة في تعريف القاعدة وهي الكلمات الثلاث (المنطق-الإنساني-المشترك) وهنا أنا لا أريد أن أقدم تعريف علمي أكاديمي للمنطق، ولكن لتبسيط الأمر نحن بحاجة لتقديم تعريف سهل بعيد عن تعقيدات علم الفلسفة والمنطق. فما نقصده هنا بالمنطق هو تماسك الأفكار من ناحية الدلالة و الاستدلال. بمعنى أخر يجب أن يقدم نص الرواية اللغوي مدلول متماسك فكرياً سواء من ناحية الفكرة المستوحاة من نص الرواية، ومن ناحية الاستدلال في الربط بين النص بمدلوله اللغوي الاجتماعي، وبين الأفكار المستخرجة منه. وحتى لو لم يكن تعريفي هذا واضحاً بالكفاية، فالأمثلة إن شاء الله ستكون كفيلة بتقديم توضيح أفضل.
وبالعودة للمصطلح الثلاثي (المنطق-الإنساني-المشترك), فإن "المنطق" في حد ذاته يظل عرضة للاختلاف بشكل أو بآخر؛ ولذلك أضفت كلمتي (الإنساني- المشترك). فـ "بالإنساني" و بـ "المشترك" قصدت التعميم بحيث أن يكون قياس منطقية نص الرواية غير مرتبط بدولة ما أو ثقافة معينة أو وضع مجتمعي في حد ذاته. فإنَّ بعض الأشياء يمكن أن تُصنَّف على أنها منطقية في مجتمعٍ ما، بينما هي غير منطقية في مجتمع آخر مع إمكانية أن يكون كلا التصنيفين صحيح.
ولكن بطبيعة الحال هناك أشياء إنسانية مشتركة وفطرية يتفق على منطقيتها أو عدم منطقيتها كل إنسان لديه عقل متوسط القدرة. وهذا هو المقصود بالمنطق الإنساني المشترك. وبالتالي نحن نقصد المنطق العام للإنسانية والذي يشكل بشكل فطري طريقة تقييم تماسك الأفكار من عدمه.
والآن دعونا نقدم بعض الأمثلة التي ستضع نقاط التوضيح على حروف الأفكار المجردة. ولأنَّ هذا المقال هو المقال المختصر، فإننا لن نتوسع كثيراً في شرح الأمثلة تاركين التوسع للمقال المُفصَّل:
المثال الأول:
ورد في كتاب صحيح البخاري رواية تقول:
(حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال رأيت في الجاهلية قِرْدة اجتمع عليها قِرَدة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم).
طبعاً هذا مثال لرواية تتعارض بشكل واضح صريح مباشر لا لبس فيه مع أي منطق إنساني مشترك. فبغض النظر عن أن الرواية هي لشخص اسمه عمرو بن ميمون بعضهم جعله صحابي وبعضهم جعله تابعي، إلا أنَّ المهم هو أنَّ البخاري نقل الرواية في كتابه الذي عنونه هو بعنوان "الجامع الصحيح". أي أنَّ البخاري من غلاف كتابه يخبر القارئ أنَّ ما بين الجلدتين هو ما جمعه من الصحيح. ونحن هدفنا بالطبع أن نضع قواعد منهجية لتقييم الروايات لأنَّ طريقة فقهاء السلف في تقييمها واستخدامها لم تكن سليمة وأبعد ما تكون عن المثالية التي يدعيها البعض لهم.
المهم, فإنَّ البخاري قد دوِّن الرواية في كتابه على أن سندها صحيح وهذا بشكل بسيط يعني أنَّ البخاري يقول أنَّ سلسلة من جاء في عنعنة الرواية هم ثقات صادقون وعدول لا يكذبون، في حين أنَّ مدلول الرواية التي نتناولها نحن هنا هو مدلول غير منطقي ولا يصح عقلاً ما يعني أن أحداً ما، أو بعض رجال السند، ألّف هذه الرواية واختلقها من خياله لأنها ببساطة لا يمكن أن تكون أحداثها قد حصلت. وإليكم الأسباب المنطقية لعدم إمكانية حدوث ما ورد في الرواية:
## القِرَدة حيوانات غير مكلفة لا تعقد قرآن ولا تكتب عقود زواج لكي يكون ممارستها للجنس حلال أو حرام. حتى لو جاء أحدهم وقال أنَّ هناك بعض الحيوانات يحصل بينها نوع من أنواع الارتباط الفطري، إلا أننا هنا نرفض فكرة الإيحاء الذي جاء في الرواية بأنَّ هناك "خيانة زوجية" في عالم الحيوانات.
## القِرَدة حيوانات غير مكلفة ليس عليها مؤاخذة أو ذنب على أي شيء تفعله وبالتالي لا حدود تشريعية عقابية على أفعالها. لكنَّ الرواية تخترع سلوك حيواني جماعي يقتل فيه مجموعة من الحيوانات حيواناً بعينه ضمن شريعة عقابية. هذا التسخيف والتسطيح والاستهزاء بالعقل البشري هو الأمر المستهجن بشكل أكبر من كون القصة مختلقة ومنسوبة للدين.
## القِرَدة مثل باقي الحيوانات سوف تهرب بمجرد بدء عمرو بن ميمون الرجم معهم أو أنها سوف تهاجمه. لا أعرف إن كان هناك من يصدق أنَّ حيوانات برية تسمح لإنسان أن ينضم إليها وهو مدجج بالأسلحة (حجارة)، ثم يقوم بقذفها دون أن يهربوا أو أن يهجموا عليه.
المثال الثاني:
ورد في كتاب صحيح مسلم الرواية التالية:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ )
هنا نفس الشيء يحصل مع مسلم الذي سمى كتابه "الصحيح" كما فعل البخاري والتي توحي للقارئ بأنَّ كل ما ورد صحيح السند بحيث أنَّ كل الرجال في سلسلة الرواية وعنعنتها هم صادقون عدول موثوق في ما يقولون. في حين أنَّ الرواية أعلاه لا يمكن أن تكون قد حصلت فالنبي لا يمكن أن يصدر عنه مثل هذا الكلام المعيب الذي يخلوا من أي فكرة منطقية مترابطة يمكن لدلالة الحديث أن تقدمها. ولتوضيح عدم منطقية ما جاء في الرواية نقدم النقاط التالية:
## جمع المرأة مع الحمار والكلب بهذا الأسلوب لا يمكن أن يصدر عن نبي قال فيه الله جل في علاه (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ). من غير المنطقي على الإطلاق أن يكون النبي خلوقاً وحكيماً ثم يصدر عنه كلام بهذا الشكل ليحشر النساء وسط حيوانات مثل الكلاب والحمير والتي تعتبر محط احتقار وتقليل قدر عند العرب قديماً وحديثاً.
## الحديث نفسه يتناقض مع عدة روايات أخرى تتحدث عن أن أي شيء يمر أمام المصلي دون وجود حائل يقطع صلاته، ما يؤكد أن تخصيص الحمار والكلب والمرأة أمر غير منطقي ولا يحمل أي معنى منطقي متماسك يمكن أن يخرج من فم النبي الذي هو مشهود له بأعلى درجات الأخلاق والحكمة. من غير المنطقي أن يصدر مثل هذه الكلام سيء التركيب معيب المعنى من شخص بأخلاق وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المثال الثالث:
فقد ورد في البخاري ما روي عن أنس مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَنَسٍ : أَوَ كَانَ يُطِيقُهُ ؟ قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ )
وفي كتاب صحيح مسلم وردت الرواية عن أنس أنه قال (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ)
وهنا عدة أمور غير منطقية لا يقبلها لا عقل ولا منطق وسنعددها في النقاط التالية:
## هناك احتمالان لا ثالث لهما لفهم هذه الرواية. إمَّا أنَّ النبي كان يدخل على نسائه يجامع كل واحدة منهن ويخرج يخبر أنس بأنه كان في الداخل يجامع زوجته. وإمَّا أن أنس كان يتلصص ويسترق السمع وبالتالي عرف أنَّ النبي كان في غرفة زوجته يجامعها. هي أمَّا هذه وإمَّا تلك، فأنس لن يعرف إلا إذا اخبره النبي أنه كان يجامع زوجاته، أو أن أنس كان يتلصص ويتصنت وبالتالي عرف. وكلا الاحتمالين كارثة.
## رواية البخاري تعتبر أسوأ من ناحية إضافة أنس أنَّ أصحاب النبي كانوا يتحدثون عن قدراته الجنسية ويقدرون أنَّ النبي لديه قوة جنسية تعادل قوة 30 رجل!. وهنا تعطي الرواية انطباعاً عن أنَّ هذه من عادات النبي المتكررة لدرجة أنَّ كل أهل المدينة يعرفون أنَّ النبي يدخل على زوجاته يجامعهن بشكل متتالي ولهذا هم يتحدثون عن أنه يملك قوة جنسية تعادل عشرات الرجال. وهنا يتكرر نفس السؤال وهو كيف عرفوا أنَّ النبي عندما يدخل دار إحدى زوجاته فإنَّه كان يجامعها؟... هل كل من يغلق بابه على زوجته يجامعها، أم أن هناك أمور أخرى قد تحصل مثل أن يتحدثا أو يلعبا أو ربما حتى يأخذان غفوة معاً. كيف عرفوا أمور خاصة جداً نحن نوقن أنَّ النبي لا يخبرهم بها ولا هم الذين سوف يسترقون السمع ليعرفوا لأنَّ هذا فيه قمة قلة الأدب وقلة الاحترام لخصوصية رسول الله.
## لو تغاضينا عن طريقة معرفة سكان المدينة معلومات عن حياة النبي الجنسية, فرواية البخاري تعطي انطباع واضح بأن هذا أمر متكرر و ليس أمر عابر, أي أن النبي كان يجامع زوجاته دفعة واحدة. أليس هذا يتعارض مع ما نعرفه من باقي الروايات بأن النبي كان لديه قسم بين زوجاته؟؟ فهناك الكثير من القصص التي وردت في كثير من الروايات يمكن أن نستخلص منها بسهولة أن النبي كان يخصص لكل زوجة يوم و بالتالي هذا يتعارض مع دورانه على زوجاته جميعاً في نفس اليوم. النبي كان قائد سياسي و قائد عسكري قبل أن يكون رسول قدوة يحمل هم رسالة سماوية عظيمة, فهل تتماشى رواية كهذه مع نمط حياة إنسان عظيم بعظمة النبي صلى الله عليه و سلم؟؟
دعونا الآن ندخل على الخلاصة خاصةً أننا في المقال المختص، وبالتالي يمكن أن نستخلص من خلال الأمثلة المقدمة أنَّ عرض الرواية على المنطق الإنساني المشترك تعتبر خطوة أساسية نتفحص بها رواية آحاد ظنية يُظن أنَّها حدثت. فما كان في أصله ظني ووجدنا صعوبة في استساغته عقلياً ومنطقياً، فمن الأفضل تركه خاصةً أننا نعرف أنًّ الظن لا يغني من الحق شيئاً وأنَّ الله عدل حكيم لا يحاسب على الأمور الظنية.
وبهذا نصل لنهاية مقالنا "المختصر" في مسيرنا المتئد نحو #السعادة، ونحو دوام حضورها وحبورنا بدوامها.
التالي بإذن الله هو المقال المفُصَّل.. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment