التفاعل مع مقال التمهيد للقواعد الخمس لوضع منهجية التعامل مع الروايات

التفاعل مع مقال التمهيد للقواعد الخمس لوضع منهجية التعامل مع الروايات
وردت عدة أسئلة و تعليقات على مقالي "القواعد الخمس في منهجية التعامل مع الروايات" ونحن اليوم بمشيئة الله نريد التفاعل معها و توضيح أي لبس قد يكون ظهر في المقالين. وكالعادة سأضع تعليقاتي في نقاط كالتالي:

  1. بيَّنت القواعد الخمس لكلِ من كان يتهمنا بإنكار السُّنة بأنه كان يلقي التهم بدون برهان حيث أنَّ القواعد الخمس مجتمعة تضع طريقة جديدة لتوظيف الروايات بشكل أفضل يتناسب مع طبيعتها الظنية. فما نعيبه على طريقة السابقين في تعاملهم مع الروايات هو أنهم بالغوا في الاعتماد عليها لفهم القرآن لدرجة أن منهم من جعل الرواية أعلى من القرآن لدرجة أنها تنسخ آياته. ويمكن بوضوح رؤية أنه لم تكن لهم منهجية صارمة ومنطقية تتعامل مع الرواية من ناحية سياقها التاريخي أو الاجتماعي. 
لقد صبَّوا كل اهتمامهم على السند ونسبة القول للنبي بحيث مع الوقت صارت الروايات كلها دين ووحي ووصل الأمر لتقديس الروايات لدرجة أنه تُقطع بها رقاب الناس رغم ظنية الثبوت وقطعية حرمة الدم كما حصل في روايات قتل المرتد.
المهم هو أنَّ القواعد الخمس التي قدمناها أوضحت بجلاء أننا لا ننكر السُّنة ولا نسعى لهدم الدين كما روَّج بعض السلفيون الذين يرفضون استخدام العقل. ما نسعى لهدمه هو تقديس الروايات لأنَّ تقديسها ورفعها لمستوى المقدس الوحيد وهو القرآن، هو ما قاد للجمود الفكري عند المسلمين بحيث استطاعت راوية ظنية واحدة أن تجبر مليارات المسلمين على مدى قرون على التقليد الأعمى لما أنتجه فقهاء القرون الثلاث الأولى من الإسلام. رواية ظنية الثبوت و ظنية الدلالة ادُّعيَ فيها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته). هذه الرواية صارت أداة القمع الأولى لأي عالم أو فقيه أو مفكر يأتي ليتدبر القرآن بعيون عصره لا بعيون القرون الثلاث الأولى. تخيلوا مجرد رواية واحدة تم معاملتها بشكل خاطئ وتقديسها رغم ظنيتها، هذه الرواية الواحدة كانت كفيلة بتحويل مليار ونصف المليار مسلم اليوم لشعوب مشلولة متخلفة تعيش عالة على باقي الأمم، فما بالكم بباقي الروايات التي أنتجت لنا فِرَق منحرفة لا نهاية لها بداية من الدواعش الذين يحاربون الجنس البشري كله بما فيهم المسلمين، وليس انتهاءً بفرقة السلفية التي تقدس الروايات وتحارب العقل. لهذا كان يجب على بعضنا أخذ زمام المبادرة ووضع قواعد منهجية للتعامل مع الروايات و توظيفها بشكل صحيح ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي.

  1. قدَّم بعض الأخوة الأكارم بعض التساؤلات بخصوص استشهادي بحديث (لا وصية لوارث) كمثال على تناقض بعض الروايات مع القرآن ويبدو أنني أحتاج لتقديم المزيد من التوضيح بخصوص المسألة. ولنبدأ بتوضيح موضوع "الوصية". فالوصية منذ آلاف السنين ليومنا هذا وقبل الإسلام وبعده هي كتابة ما يريد الإنسان لمن حوله أن يعملوه بعد موته خاصة بخصوص ما يترك من ممتلكات. والناس منذ آلاف السنين ليومنا هذا و قبل الإسلام و بعده لا زال من يكتب منهم وصية يقسم ممتلكاته بين أبنائه وأقاربه وغيرهم إن وُجِدَ. 
إثبات أنَّ الناس تكتب الوصية للأقارب هو أمر بديهي لا يحتاج للتدليل عليه، و مع ذلك فيمكن أثبات وجوده في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). فالآية لا تثبت فقط أنَّ الإنسان كان يكتب الوصية للأقارب، بل وتطلب من المؤمنين أن يكتبوا الوصية للأقارب.
لكن لكي نتعامل مع الواقع المُعَاش ومع الحقيقة الواقعة كما هي، فإنَّ الكثير، إن لم يكن الأغلبية، يموتون ولا يتركون وصية. أي أنَّ هناك الكثير من الناس يغادر الدنيا ويترك ممتلكات دون أن يترك وصية لطريقة التصرف بها ما يفتح باباً للخلاف وللعداوات والمشاكل بين أفراد عائلة المتوفي. و لأنَّ عدم ترك الوصية هو أمر شائع، فإنَّ ربنا جل في علاه قد أرشدنا لطريقة حل هذه المشكلة في موضعين مختلفين من القرآن.
 ## ففي الموضع الأول، حضّ الناس على كتابة الوصية للأقارب ما يغلق باب الجدل والخلاف بينهم حول طريقة التقسيم في قوله تعالى في سورة البقرة الآية 180 (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)

## وفي الموضع الثاني، قدَّم إطار عام لوضع نسب التقسيم بين الأقارب ووضع حدود عليا وأخرى دنيا في آيات المواريث الشهيرة التي وردت في سورة النساء والتي لا يتسع المجال لنسخها هنا لطولها.
وبالتالي صار هناك حلَّان للمشكلة، إما أن يترك صاحب الممتلكات وصية قبل وفاته وينتهي الأمر، وإن لم يفعل، فقد قدَّم لنا الله عز و جل إطار عام لطريقة التقسيم بين الأقارب، هو ما يستخدمه الأقارب لتقسيم التركة بينهم.
للأسف، ورغم وضوح كيفية علاج ربنا عز وجل للأمر، إلا أنَّ بعض فقهاء السلف قد فهم خطأً أنَّ آية الوصية في سورة البقرة تتعارض مع آيات المواريث في سورة النساء، فقرروا أنَّ آيات المواريث في سورة النساء قد نسخت آية الوصية في سورة البقرة. وما زاد الطين بالة هو اعتمادهم على رواية آحاد ظنية هي الحديث الذي استخدمته في المقال كمثال والذي زعموا فيه أنَّ النبي قال (لا وصية لوارث).
وهنا أريد شرح ما اقصد هنا بكلمة أقارب في تعبيري الخاص، فالأقارب هنا أقصد بها الأبناء و الآباء والأخوة و غيرهم والذين هم كلهم أقارب لبعضهم البعض. وبعد توضيح من أقصد بكلمة أقارب، أريد توضيح أهمية الوصية للأقارب وأنَّ وصية الإرث أو آيات المواريث لا يمكن أن تنسخ الوصية للأقارب. 
لتوضيح أهمية الوصية دعنا نأخذ مثال بسيط كأن يكون لرجل ولدين ذكرين. أحدهما لديه إعاقة جسدية وهو طيب القلب مطيع لأبيه ويساعد أبيه على إنجاز أعماله رغم إعاقته الجسدية. وفي نفس الوقت يقوم أبوه على رعايته التي تكلف الكثير من المال. بينما الولد الآخر سليم الجسد ولكنه مريض القلب يتميز بالطمع والأنانية وهو لا يقدم أي مساعدة لوالده ويعمل دائماً لحساب نفسه فقط بحيث حصل أنه جمع الكثير من المال. لو أخذنا برأي بعض فقهاء السلف الذين ألغوا الوصية للوارثين، فحينها، لو مات الرجل فسيأخذ كلا الولدين نفس النصيب. وهذا ليس فيه أي شيء من العدل. إذ أنَّ الإبن المعاق جسدياً ليس فقط يحتاج لمال أكثر ليقوم بأعباء الحياة المكلفة بسبب إعاقته، بل إنَّه يرى أخوه الذي لم يساعد الأسرة في شيء يأخذ نصف المال الذي تعب هو نفسه في جمعه مع أبيه. هذا أمر غير عادل على الإطلاق.

أمَّا إذا أخذنا بالمنطق البسيط بعيداً عن رأي بعض فقهاء السلف واعتبرنا الوصية للوارثين جائزة، فحينها سيتمكن الأب من أن يكتب وصية عادلة تعطي للإبن البار المعاق جسدياً حقه في مشاركته صنع المال مع أبيه، وتحمي مستقبله بحيث يكون لديه مال كافي ليستطيع مواجهة تكاليف إعاقته الجسدية. وفي نفس الوقت تسمح له أن يعطي للابن الآخر قدر من المال أقل لأنَّه غني وسليم ولا يحتاج المال مثل ما يحتاجه الابن البار الذي عنده إعاقة جسدية.

في الحقيقة يمكنني أن أكتب موسوعات كاملة من ملايين السيناريوهات والقصص والحالات المحتملة التي سيضيع فيها العدل لو لم نسمح بأن تكون هناك وصية للوارثين. العدل لن يتحقق بالفهم السلفي التراثي على الإطلاق و هناك ملايين القصص التي تثبت هذا، بينما سيتحقق العدل لو جدَّدنا فهم القرآن بوضع قواعد مناسبة منطقية لمنهجية تدبر وفهم القرآن. فالأصل يجب أن يكون الوصية كما هو واضح في القرآن وكما قال ربنا بذاته في نهاية كل آية من آيات المواريث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ), لأنَّ صاحب التركة أعرَف وأعلم بحال ورثته، وما يحتاجه كلٌ منهم من التركة لتكون حياته أفضل. ومِن ثَمَّ تأتي وصية الله في آيات المواريث والتي تمهد وتؤسس الإطار العام لتقسيم التركة بين الورثة الذين لم يترك صاحبها وصية للتقسيم. فحتى النسب المذكورة في آيات المواريث في سورة النساء هي ليست أرقام توقيفية و إنما حدود عليا و حدود دنيا لنصيب كل واحد من الورثة. و لأننا لسنا بصدد تقديم الرؤية القرأنية الجديدة لفهم آيات المواريث, فسوف لن نتعرض لهذا الأمر هنا. سوف نقدم مقال كامل عن المواريث في المستقبل إن شاء الله مبني على القواعد المنهجية السبع التي وضعناها لفهم وتدبر القرآن الكريم.

ج) هناك بعض التساؤلات بخصوص الغيبيات وبخصوص علاقة العلم التجريبي والحقائق العلمية المقطوع بثوبتها مع طريقة تقييم الروايات. وهنا نحب أن نبيِّن و نؤكد على أننا كنا نقصد أن تعارض الروايات مع العلوم الثابتة يدفعنا لترك الرواية لثبات عدم صحتها عملياً، لكن هذا فيما يخص الروايات التي تتناول أمور علمية أو التي لها طابع غير غيبي. فالروايات التي تتحدث عن الأمور الغيبية لا يتم عرضها على العلم؛ لأنَّ العلم أصلاً لا علاقة له بالعلوم الغيبة؛ وبالتالي هو غير مؤهل لتقييم أي رواية تتحدث عن الغيبيات. فالعلم هو بطبيعته يتعامل مع المحسوس والملموس ولا علاقة له بأي شيء مما وراء الطبيعة. ولهذا تقييم الرواية التي تتحدث عن أمر من أمور الغيب، يتم عرضها على القاعدة الأولى والثانية (القرآن-العقل)، ولا يتم عرضها على القاعدة الثالثة (العلم).

د) الأمر الأخير يتعلق بالقاعدة الرابعة حيث أنَّها تقول (تحديد نوع الرواية من ناحية التبليغ)، غير أنني لم أوضِّح معنى التبليغ بشكل واضح، وأحببت أن أوضحه هنا بشكل أكبر. التبليغ بالنسبة لموضوع الروايات يأخذ مفهوم اصطلاحي خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. فالرسول مبلغ رسالة، والوحي الذي هو ملزم لنا سيكون هو أيضاً رسالة، وبالتالي تبليغ النبي لأي وحي هو أمر إلزامي بالنسبة له يجب عليه أن يقوم به على أكمل وجه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم. وبالنظر إلى الغالبية العظمى من الروايات، فإننا سنلاحظ أنَّ فيها قصص كثيرة لأحداث حصلت زمن حياة النبي عليه السلام. بالنظر بدقة في هذه القصص المروية سنكتشف أنَّ أغلبها هي مجرد قصص تاريخية لا تشريع فيها لأنَّ عدد الأشخاص في الرواية وقصة الرواية نفسها لا توحي بأنَّ الرسول كان في حالة تبليغ. لهذا فإنَّه كان يجب عدم تقديس الروايات واعتبارها وحياً، ليس فقط لأنَّ الروايات غالبيتها العظمى آحاد ظنية، وإنما أيضاً لأنَّ غالبيتها العظمى هي عبارة عن قصص محلية لا علاقة لها بالدين من ناحية التشريع والحلال والحرام. فالتشريع والحلال والحرام يقتضي أن يقوم الرسول فيها بعمل أشياء تثبت أنه في وضعية تبليغ كأن يكون قد جمع الناس ليبلغهم تشريع أو حكم أو حلال وحرام، ثم طلب من الجموع التي جمعها لتسمع منه أن يقوموا بالتبليغ عنه صلى الله عليه و سلم. يعني لكي تتحقق حالة التبليغ، يجب أن يحصل الأتي:
.
## تجميع الناس وتبليغهم
## الطلب مِمَّن حضر تبليغ من لم يحضر
## أو أن يُطلب من الحاضرين أن يقوموا بالتدوين لكي يصل للأجيال التالية كما هو الحال مع تدوين القرآن لأنه رسالة مطلوب تبليغها لجيل أصحاب النبي وللأجيال التي تأتي بعدهم.

هذا الوضع الصحيح والطبيعي لتبليغ أمر تشريعي فيه حكم أو حلال أو حرام. وهذا الأمر لا ينطبق على 99% من الروايات التي تحمل قصصها وجود نفر أو اثنين أو بضعة أشخاص على أقصى تقدير ما ينفي حصول حالة تبليغ، والذي بدوره ينفي إمكانية استخراج تشريع وحلال وحرام من الرواية.

"التبليغ" هو مفهوم سيكون له دور جوهري في تنقيح وتنقية الروايات لنعرف ما هو قصة عابرة محلية، وما هو دين وتشريع، وسوف نتناوله بتوسع أكبر بإذن الله عندما ننشر مقال القاعدة الرابعة.

وهنا نكون قد وصلنا لنهاية المقال آملين أن نكون على المسار الصحيح نحو #السعادة، والتي ارجوا أن تمتلئ بها قلوبكم وتجدوا فيها نفوسكم طول الطريق، مازلنا على دربها ولدينا المزيد.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...