قاعدة عرض متن الروايات على القرآن (المقال المختصر)

قاعدة عرض متن الروايات على القرآن (المقال المختصر)

كما وعدناكم، فاليوم سنبدأ سلسلة المقالات التي تتناول قواعد الخمس لمنهجية التعامل مع الروايات، والبداية بطبيعة الحال ستكون مع القاعدة الأولى والتي تقول:

(القاعدة الأولى: عرض متن الرواية على النص القرآني وكليات القرآن)

هذه القاعدة تمثل الاختبار الأول للأخذ برواية أو تركها. فبعرض المعنى اللغوي الممكن لمتن الرواية على القرآن، يمكن أن نقرر هل من الممكن أن تكون الرواية قد حصلت بالفعل وأنَّ ما قيل فيها قد قيل فعلاً أم أنها رواية موضوعة ألفها أحدهم ونسبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأحد أصحابه.
منطق هذه القاعدة بسيط ويقوم على فكرة أنَّه من خلال ما سبق عرضه من حقائق ومسلَّمات فيما يخص الفرق بين طريقة تجميع وتدوين وثبوت القرآن وبين طريقة تجميع وتدوين وثبوت الروايات, بناءً على الفارق الشاسع بين قطعية القرآن وظنية الروايات، فإنَّه من الطبيعي أن يتم اختبار الظني بعرضه على القطعي. أي أنَّ العمل الوحيد الرشيد هو أنَّ يتم عرض الروايات الظنية على آيات القرآن القطعية كأداة اختبار لمدى صدقية الروايات. بمعنى آخر، فإنَّ عرض الرواية (كلام البشر)، على القرآن (كلام رب البشر) لابد وأن يكون أول قاعدة لتقييم وتنقيح وتمحيص أي رواية مهما تغزلوا في نقاوة سندها.

ولأنَّ القاعدة كمفهوم تُعتبر بسيطة وخالية من التعقيد ولا أظن أنه يختلف حول صحة استخدامها البسطاء فضلاً عن المتخصصين، فلا يحتاج الأمر لكثرة شرح وتوضيح. الذي نحتاجه بشكل أكبر هنا هو تقديم أمثلة حقيقة على طريقة تطبيق القاعدة. وبالتالي سنقوم بعرض مجموعة من الأمثلة على روايات في الكتب الستة الأكثر شهرة واعتمادية بين المسلمين، هذه الروايات التي سنقدمها سيتبيَّن لنا أنه لا يمكن تصديقها أو الأخذ بها لتعارضها التام والمباشر مع آيات القرآن الكريم وكلياته التي يرسمها على طول الكتاب وعرضه. والآن دعونا نقدم الأمثلة التالية والتي هي جزء بسيط من عشرات الأمثلة على تناقض روايات مع القرآن:

(المثال الأول):
المثال الأول نتناول فيه أشهر حديث لما يسمى حد الردة والذي ورد في بعض كتب الروايات وعلى رأسها كتاب صحيح البخاري. وإليكم الرواية:
{حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، قال: أُتي على رضي الله عنه بزنادقة، فأحرقهم؛ فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذبوا بعذاب الله))، ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دينه فاقتلوه))}
وهذا الحديث يتعارض تعارض مباشر و كامل مع عدة آيات قرآنية نسردها كالتالي:
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ)
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ)

ولكثرة الآيات التي تحمل مضمون حرية الاعتقاد ومنع الإكراه في الدين، فسنكتفي بهذه الآيات فقط. وهذا الحديث الوارد في كتاب البخاري و الذي يعتبر من أعلى كتب الروايات موثوقية، هذا الحديث لا يمكن قبوله على الإطلاق كون التعارض بينه وبين القرآن ليس فقط أنَّه عارض النص الصريح لعدة آيات من القرآن، وإنما أيضاً لأنه يعارض كليات القرآن وخطوطه العريضة التي يرسمها على طول الكتاب وعرضه. فحُرية الاعتقاد وجعل الإيمان والكُفر مسألة شخصية بين الإنسان وربه هو مبدأ قرآني أصيل رسمته مجموعة كبيرة من الآيات ومنها الآيات الأربع التي سقناها في الأعلى.

(المثال الثاني):
هذا المثال يتناول مسألة مشهورة بين المسلمين وهي البكاء على الميت. فقد اشتهر بين الناس بأنَّ الميت يتعذب في قبره بسبب بكاء أهله عليه، وسبب هذا الاعتقاد غير الصحيح هو الروايات غير الصحيحة. فقد ورد في كتب الروايات الشهيرة روايات مختلفة بالخصوص مثل ما ورد في كتاب صحيح مسلم ما روي عن  المغيرة بن شعبة انه سمع النبي يقول: {من نيح عليه فإنَّه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة}.
هذا الحديث يتعارض معارضة صارخة مباشرة مع عدة آيات نذكر منها قوله تعالى:
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ)
(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)
(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ)

وكما هو الحال في المثال الأول، فإنَّ هذا الحديث ليس فقط يتعارض مع الكثير من الآيات، وإنما أيضاً يتعارض مع كليات القرآن وقواعده الأساسية التي يرسمها عبر آيات الكتاب. فمن المبادئ الأساسية القرآنية أنَّ الإنسان يُحاسب فقط على أعماله التي اكتسبها في حياته ولا يُحاسبه الله على أخطاء غيره. البكاء وحتى ربما الصراخ أمر وارد خاصة من النساء عند فقد الحبيب والقريب، فلماذا أتعذب أنا لأنَّ زوجتي لم تتحمل خبر وفاتي وقامت بالبكاء والصراخ. الأمر ليس فيه تعارض مع القرآن فقط، بل حتى مع مبدأ عدل الله جل في علاه. لماذا يؤاخذني الله بأخطاء غيري إن اعتبرنا أنَّ عدم القدرة على التحكم في مشاعر الحزن ذنب، وهي بكل تأكيد ليست ذنب.

(المثال الثالث)
ورد في كتاب البخاري وغيره ما يوافق نَصُّه ما خْرَجَهُ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد فِي زِيَادَات الْمُسْنَد وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد النَّخَعِيِّ قَالَ: (كَانَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَحُكّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفه، وَيَقُول: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب اللَّه)
هذه الرواية ليست فقط تتناقض مع القرآن وإنمَّا حتى تطعن فيه وتروج لكون القرآن به زيادة ليست من كتاب الله. أي أنَّ هذه الرواية ليست فقط تُظهر خطأ الاعتماد على الروايات على أنَّها قطعية الثبوت بمجرد ثبوت السند، والذي لا يثبت إلا بالظن، وإنما أيضاً تثبت أنَّ الروايات لو لم ننزلها منزل الشك ونتعامل معها بعدم اليقين، فإنَّها ستكون أداة ممتازة في أيدي كل من لديه رغبة لهدم الدين وإثبات بطلان الإسلام كدين. فرواية كهذه يتم استخدامها من قِبَلِ الملحدين وغير المسلمين لإثبات أنَّ الدين الإسلامي باطل وبأنَّ القرآن محرَّف حسب زعمهم ناسين أنَّ هذه رواية آحاد ظنية لا تصلح دليل على إثبات شيء ولا لنفي شيء. طبعاً تتعارض هذه الرواية مع كثير من الآيات مثل قوله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
(وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)
(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)

هذه الرواية تتعارض بشكل كبير مع ما ورد في القرآن بشأن حفظه واكتماله وأنَّه ليس قابل للتحريف ولا الزيادة ولا النقصان ولهذا لن يأتي الإنس والجن بمثل اكتمال وعظمة وتمام هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

وبما أنَّ هذا المقال هو المقال المختصر، فلابد لنا أن نكتفي بهذا القدر على أن نعود إليكم بتفصيل أكبر في المقال المُفصَّل بإذن الله.
دمتم ودامت سعادتكم.. تابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...