تدبر القرآن كأن وحيه اكتمل اليوم: الجزء الثاني


قمنا بالأمس بفضل الله بتناول النقطة الثانية من النقاط السبع في منهجية تجديد فِهم وتدبُّر القرآن، وننصح الأخوة المهتمين بالرجوع لموضوع النقطة الأولى والثانية أيضاً في مدونة الصفحة التي ستجدون رابطها في نهاية هذا المقال.

اليوم ولأهمية النقطة الثانية فسوف نستمر فيها بإعطاء مزيد من الأمثلة لتوضيح هذه النقطة من منهجية فهم وتدبُّر القرآن، وللتذكير، فإنَّ النقطة الثانية من النقاط السبع تقول:

 (أن نبعد أي فهم قديم عن عقولنا لأنَّ أي فهم مسبق سيكون مثل الغشاوة على العين التي لا تسمح لك بأن ترى عمق الأشياء)

وللتذكير أيضاً، فكما ذكرنا بالأمس، فإنَّ هذه ليست دعوة للقطيعة مع الماضي، وإنما هي وسيلة من وسائل التجديد ومساعدة العقل على رؤية الجديد والغوص بسلاسة لأعماق النص القرآني دون أن نكون متأثرين بتفاسير غيرنا خاصة التفاسير القديمة. فرؤية زاوية جديدة يتطلب بكل تأكيد الابتعاد عن زاوية الرؤية القديمة وإلا فإننا لن نرى أي جديد بالاستمرار في النظر من نفس الزاوية.

اليوم سوف أقدِّم أمثلة جديدة توضح ليس فقط أنَّ فِهم الأولين قد يشوش على محاولتنا برؤية فهم جديد، وإنما أيضاً لأنَّ كثير من تفاسير فقهاء التراث وآراءهم تعتبر منتهية الصلاحية كون الإنسان قد تطور بشكل كبير جداً سواءً على المستوى المعرفي أو القيمي الأخلاقي، ففقهاء التراث تفصلنا عن أغلبهم قرابة الـ 1000 سنة وهو زمن طويل جداً تغير فيه كل شيء من حولنا، فهم كانوا يرون ويتعاملون مع أشياء مختلفة اختلاف جذري وجوهري عما نرى أو نتعامل معه. نظرتهم للأشياء وحتى قيمهم الأخلاقية لم تنضج بالمستوى الذي عليه الإنسانية اليوم، ومستوى تفكيرهم لم يتطور بالمستوى الذي عليه إنسان اليوم، ليس لأنهم كانوا سيئين، وإنما لأنَّ هذه هي سنة الله في الحياة، فالمعرفة تتراكم والقيم والأخلاق ترتقي والحياة كلها تتطور للأمام.
لا نريد أن نخوض في هذه المسلَّمات الثلاث مجدداً لأننا ناقشناها بشكل مستفيض في السابق ولمن لديه رغبة في العودة إليها فليراجع مدونة الصفحة وسيجد كل المقالات بالخصوص.

ولكي نكون عمليين، فسنطرح مثال واضح صارخ يقدم صورة تُعبِّر عن ما أقول وهي أسطع من الشمس في ظهيرة يومٍ قائض. و صاحبنا اليوم هو العالم الجليل فخر الدين الرازي صاحب تفسير "مفاتيح الغيب" وهي الموسوعة التي فسَّر فيها القرآن، والرازي يعتبر من أهم علماء الرأي في التاريخ الإسلامي ومن شدة شهرته و احترام مقام علمه كان يلقب بسلطان المتكلمين وشيخ المعقول والمنقول. وفوق هذا فهو كان من عظماء جيله كونه كان عالماً موسوعياً امتدت دراساته ومؤلفاته لتشمل كل المجالات، ولم تكن مقتصرة على العلوم الإنسانية اللغوية والعقلية، بل تجاوزها إلى العلوم البحتة في الفيزياء، الرياضيات، الطب، الفلك ... هذا وصف الرجل في زمنه ومن يذهب ليقرأ سيرته وعلومه سيجد نفس الكلام الذي كتبناه عنه هنا.

الشاهد، ففخر الدين الرازي رغم أنه عالم موسوعي في زمنه، إلا أنَّ مستوى معرفته ومقدار ما لديه من فهم للقيم والأخلاق الإنسانية يعتبر متخلف جداً بالنسبة لزمننا وعصرنا، فنحن تفصلنا عنه قرابة الـ 1000 سنة تطورت فيها الإنسانية كثيراً وبالتالي صارت كل مؤلفاته منتهية الصلاحية من ناحية أنها تُفيدُ فقط دارسي التاريخ، ولكن لا يمكن البناء على أفكاره ولا آرائه في كل مؤلفاته لأننا تجاوزناها بكثير.
قد يعتقد البعض أنَّ كلامي منطقي فيما يخص مؤلفاته في الفيزياء والرياضيات والطب والفلك، ولكن الأمر أبعد من ذلك ويشمل كل مؤلفاته حتى في مجال العلوم الإنسانية والعقلية ومنها بالطبع تفسيره للقرآن، والذي يعتبره الباحثون أحد أهم تفاسير القرآن من علماء الرأي. فهناك مدارس تفسير منها مدرسة تفسير أهل الأثر  ومدرسة تفسير أهل الرأي، ومن الاسم (أهل الرأي)، فيمكن معرفة أنَّ الرازي كان مفسر عقلاني يميل أكثر للاعتماد على التفكير والعقل في تفسير القرآن بخلاف مدرسة الأثر التي تميل للرواية والنقل كأساس للتفسير، يعني الرجل يعتبر متطور وعقلاني ومتحرر مقارنة بعلماء زمانه ومع هذا.. ومع هذا.. ومع هذا، فمستوى زمانه كان متخلف قيمياً وإنسانياً لدرجة أنه كان يرى أنَّ المرأة كان يُفترض بها أن تكون دابة وليس إنسان مكلف لكن الله أراد أن يتم نعمته على الرجال فجعل النساء مكلفات، والأدهى من ذلك هو أنه يرى أنَّ تكليفهن بالحلال والحرام هو كي تنقاد النساء للرجال خوفاً من العقاب من الله! ولكي تصلكم الصورة كاملة بدون لبس أو تشويش، سأقتبس كلام الرجل هنا وسأضع صورة للصفحة التي اقتبس منها الكلام من تفسيره في أول تعليق أسفل هذا المنشور، الكلام هو في المجلد رقم 25 الصفحة 111 من تفسير الفخر الرازي للقرآن الكريم لقوله تعالى في سورة الروم الآية 21 (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ... إليكم الاقتباس:
بداية الاقتباس
(قوله (خُلِق لكم) دليل على أنَّ النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى (خلِق لكم ما في الأرض) وهذا يقتضي ألا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا، وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى، أمَّا النقل فهذا وغيره، وأمَّا الحكم فلأنَّ المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها، وأمَّا المعنى فلأنَّ المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي لكن الصبي، لم يكلف فكان يناسب ألا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد.)
نهاية الاقتباس
اعرف أنَّ هذا الكلام من الرازي صادم جداً لمن لديه أي قدر من الإنسانية واحترام آدمية الإنسان سواء كان ذكر أو أنثى، وما نقلت كلام الرجل لكي أظهره بشكل سيء، فهو عالم جليل، لكن ما أردته من نقل كلامه هو تبييّن حقيقة أنَّ مستوى الإنسان المعرفي والقيمي الإنساني الأخلاقي في زمن فقهاء التراث يعتبر متخلف جداً بالنسبة لنا لأنه تفصلنا عنهم قرون كثيرة تطور الإنسان فيها كثيراً، وبالعودة لموضوع مقالنا، فإنَّ تفاسير وتدبُّر الأولين للقرآن لا يمكن الاعتماد عليه كأساس لبناء فِهم وتدبُّر جديد لأنه من باب، نحن بحاجة لاستبعاد تفاسير الأولين لكي نستطيع تكوين رؤيتنا الخاصة والقدرة على رؤية زوايا جديدة، ومن باب، فإنَّ تفاسيرهم وتدبرهم يُعتبر منتهي الصلاحية وبدائي كنتيجة لبدائية حياتهم ولمستوى معارفهم وقيمهم الإنسانية في عصرهم التي تتخلف عن مثيلاتها في هذا العصر بأكثر من 1000 سنة.

الخلاصة هي أنَّ تفسير القرآن يحتاج لمنهجية كي يتجدد فهمه ومنها أن نستبعد تفاسير الأولين لكي لا تشوش علينا، ولأنها مبنية على أسس معرفية وأخلاقية بعيدة كل البعد عمَّا وصل إليه الإنسان من أسس أعلى وأفضل بكثير.
غداً إن شاء الله نواصل المسير وننتقل بإذن الله للنقطة الثالثة في منهجية تجديد فهم وتدبُّر القرآن لكي نصل لمراد الله من إسعاد و#سعادة الإنسان.

مشوار #السعادة هو مشوار ربَّاني وخطة إلهية لن يحيد عنها إلا من حرم نفسه من فرصة دوام السعادة، ودمتم سعداء.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة