محور فهم أنفسنا و ما حولنا: مسلمة التراكم القيمي

محور فهم أنفسنا وما حولنا: مسلَّمة التراكم القيمي

كنَّا قد بدأنا في مناقشة وطرح المسلمات العقلية التي تخضع للمنطق الإنساني المشترك. وتناولنا في اليومين الماضيين مسلَّمتين. الأولى هي مسلمة تطور الإنسانية، بينما الثانية كانت مسلمة التراكم المعرفي والتي هي في الحقيقة مسلَّمة بانية للمسلمة الأولى، بمعنى أنَّ مسلمة تطوُّر الإنسانية يمكن بناءها على مسلمة تراكم المعرفة، والتي تعمل مع المسلَّمة الثالثة، التي سنطرحها اليوم، على تدعيم المسلَّمة الأولى. ومسلَّمة اليوم ستكون بإذن الله هي "مسلمة التراكم القيمي" وبإعادة تركيب الفكرة، يمكن القول أنَّ مسلمة التراكم المعرفي ومسلمة التراكم القيمي يقودان لمسلمة التطور الإنساني.

ودعونا ندخل على مسلمة اليوم، والتي هي أقل وضوحاً من مثيلتها (مسلمة التراكم المعرفي) فمسلمة التراكم القيمي أو لنقل التراكم الأخلاقي هي مسلمة بالمفهوم الإنساني المجرد من الثقافات والموروثات. فتعريف الأخلاق وما يُعتبر قيمة أخلاقية جيدة أو سيئة غالباً ما تخضع لمعايير نسبية لها علاقة بالجغرافيا والتاريخ والثقافة. لكن هذا لا يمنع من أنَّ هناك معايير أخلاقية غير نسبية موحدة تخضع لها المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن الجغرافيا والتاريخ والموروث الثقافي.

هناك قيم إنسانية مشتركة تشترك في تبنيها كل شعوب الأرض، ونالت نفس التقدير والاعتراف من المجتمعات الإنسانية طوال تاريخ الإنسان على كوكب الأرض وفي أي مكان وُجد على ظهره.
فمثلاً: القتل هو جريمة أين ما توجهنا، وحيثما حللنا بغض النظر عن تاريخ وجغرافيا المكان وكذلك السرقة، والكذب، والغش. والصدق، والأمانة، ومساعدة الضعيف، والعطف على الأطفال هي أيضاً لا تتغير بتغير المكان ولا الزمان وتعتبرها المجتمعات الإنسانية قيم أخلاقية حسنة وحميدة. هناك قيم إنسانية مشتركة هي التي نقصدها هنا في مناقشتنا لمسلمة تراكم القيم. هذه القيم تمثل أرضية وقاعدة ثابتة لا تتغير بمرور الزمان أو بتغيير المكان، ولكنها تظل أرضية وقاعدة يمكن البناء عليها، وهنا أقصد أنَّ الأخلاق والقيم الإنسانية المطلقة هي مجرد قاعدة لمنظومة قيم أكبر تتغير من زمان لآخر ومن بقعة أرض لأخرى؛ وبالتالي ليست كل القيم والأخلاق ثابتة عندما نراقبها ونحن نحرك عجلة الزمن للخلف أو للأمام.

القيم الإنسانية الأخلاقية هي منظومة واسعة تتغير وتتطور مع الزمن نتيجة لتراكم التجربة الإنسانية. أي أنَّ الأخلاق والقيم هي مثلها مثل المعرفة والعلوم تتقدم وتتطور وتتحسن مع مرور الزمن بفعل التراكم الزمني. لكنَّ الاختلاف بين التراكم المعرفي والتراكم القيمي هو أنَّ التراكم المعرفي ينتج نتيجة انتقال المعارف والعلوم من جيل للذي يليه الذين يدرسون ويتعلمون نفس العلوم ثم يزيدون عليها بصمتهم فتزداد المعرفة بتقدم الزمن. بينما التراكم القيمي هو نتاج التجربة الإنسانية وليس نتاج مباشر للعلوم المادية.
فمثلاً: قد يكون فعل معين في زمن ما يعتبر عمل من الناحية القيمية والأخلاقية ليس سيء، وبمرور الزمن وممارسة الإنسان لهذا السلوك الأخلاقي ومن خلال التجارب الإنسانية يحدث أن يرى جيل معين مساوئ وأضرار هذا السلوك على الإنسان؛ وبالتالي سيبدأ الشك في أنَّ هذا السلوك الإنساني سيء وربما يجب وقفه وتصنيفه على أنه عمل غير أخلاقي ومنافي للقيم الإنسانية المشتركة. سيتطور الأمر وباستمرار الأجيال التالية في رؤية نفس الآثار السيئة لهذا السلوك، عند نقطة زمنية فاصلة، سيستطيع جيل ما في المستقبل وقف وحضر وضم هذا السلوك لفئة السلوكيات السيئة المحظورة والغير مقبولة، وربما حتى التي تستوجب نوعاً من أنواع العقاب لمن يمارس هذه السلوكيات.

ولتوضيح الفكرة بمثال عملي، دعونا نتناول مسالة الرق أو الاستعباد. فقد كانت المجتمعات الإنسانية على مدى آلاف السنين تمارس هذا السلوك (استرقاق البشر) على أنه عمل لا ينافي الأخلاق وعلى أنه ممارسة شرعية وسلوك لا غبار عليه وجزء من نمط حياة كل شعوب الأرض في كل مكان بدون استثناء. استمر هذا السلوك المشين لآلاف السنين على أنه سلوك مقبول في منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية.
مرَّت السنين والقرون واستطاع الإنسان من خلال التجربة أن يرى جيل بعد جيل أنَّ هذا السلوك غير أخلاقي وغير سوي وأنه يسيء لآدمية الإنسان. مع تقدم الزمن، وصل الجنس الإنساني مؤخراً لنقطة فاصلة أنهت الجدل، وتم تصنيف هذا السلوك على أنه سلوك سيء وغير أخلاقي، وبل، وحتى جريمة يعاقب عليها القانون في كل القوانين الرسمية للدول. هذه النقلة النوعية في سلوك الإنسانية نتجت عن تراكم التجربة الإنسانية التي أوصلت الإنسانية عند جيل معين لنقطة قام بها بتطوير منظومة الأخلاق، وتوسعة دائرة القاعدة الأساسية للقيم بضم قيمة جديدة، وتعريفها على أنها قيمة سيئة يجب تجنبها. 

من خلال مثال ممارسة الإنسان لاستعباد أخيه الإنسان لقرون طويلة ثم تطوَّر الأمر وصارت الممارسة في عيون أجيال اليوم شنيعة وبغيضة، فإنَّ السر في هذا التغيير كان بسبب أحد مسلمات الحياة الإنسانية والتي هي مسلمة التراكم القيمي الأخلاقي. فالأخلاق تتطور وتتقدم وترتقي مع الزمن. وبتوسيع النظرة، يمكن لأي عاقل لديه قدرة على استيعاب المنطق الإنساني المشترك أن يرى أنَّ الإنسانية اليوم لديها قيم وأخلاق ليست مكتملة ولا هي مثالية بكل تأكيد، لكنَّ الأكثر تأكيداً أنها أفضل من قيم وأخلاق الإنسانية قبل 100 سنة.
لا أظن أنَّ إنسان ما قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها كان يتحلى بأخلاق أفضل ونحن نرى اليوم بوضوح كيف صار للإنسان حقوق في كثير من بقع الأرض بعد أن كان لا قيمة له في كل عموم الكوكب. رقعة احتقار الإنسان وحرمانه من حقوقه الأساسية تقلصت وتتقلص مع مرور الزمن.
وهنا نرجو عدم الخلط، فأنا هنا لا أدَّعي أنَّ كل العالم يلتزم بحقوق الإنسان، ولا حتى أنَّ مواثيق حقوق الإنسان مثالية ومكتملة، وإنما أدَّعي أنَّ رقعة احترام حقوق الإنسان لم تكن موجودة قبل 100 سنة، ولكنها اليوم موجودة وتتوسع. فرحلة التراكم مستمرة والإنسانية مازالت تتعلم وتتطور وتتقدم قيمياً وأخلاقياً مع الزمن. نفس الكلام ينطبق على مقارنة إنسان ما قبل 100 سنة بنظيره ما قبل 1000 سنة وبالرجوع لتاريخ الإنسانية القديم أكثر فأكثر، فمن خلال التاريخ يمكن أن نرى أنَّ إنسان ما قبل 1000 سنة تطور قيمياً على نظيره الذي عاش قبل 10,000 سنة، وهكذا دواليك.

الخلاصة هي أنَّ القيم الإنسانية والأخلاق تتراكم وتتقدم مع الزمن. يمكن رؤية هذه المسلمة بوضوح عند الارتفاع بالنظر إلى الصورة الأكبر دون التشويش الذي يمكن أن يحصل لو أننا شغلنا أنفسنا بتفاصيل جيلنا هذا أو أي جيل سابق.
فقط انظروا للتاريخ الإنساني بشكل عام، وأنتم سترون صورة أفضل تعطيكم صورة عامة يمكن من خلالها أن نرى بوضوح أنَّ الإنسانية تسير بشكل أفضل لخلق حياة إنسانية أفضل يكون فيها للإنسان وخياراته وحياته قيمة مهمة ستساعده بكل تأكيد على الرقي والارتقاء.
غداً إن شاء الله سنحاول تلخيص المسلمات الثلاث وربطها ببعض لنربطها بموضوع فِهم الإنسان لنفسه ولما حوله.

دامت لكم #السعادة ودمت لها

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة