فهم أنفسنا وما حولنا: مراجعة المسلَّمات الثلاث معاً
في الأيام القليلة الماضية تشاركنا ثلاث مقالات تعرض مسلمات تخضع للمنطق الإنساني المشترك حسب فهمنا وتحليلنا.
واليوم نريد أن نعود ونضع المسلمات الثلاث معاً في صورة واحدة لنرى ما رسمناه في أذهاننا بعد عمل شاق على مدار الأيام الثلاثة الماضية. فالرسَّام ينغمس في تفاصيل لوحته الفنية منكباً عليها يضع ألوانه وكل التفاصيل، ثم من فترة لأخرى يتراجع للخلف ليرى الصورة كاملة بعد فترة الانكباب على التفاصيل. حينها سيرى محصلة عمله وقد يظهر له أفكار أجمل وتحسينات ممكنة على الرسمة الأصلية التي في ذهنه. ونحن هنا سنقوم بالمثل. سنتراجع خطوة للوراء بعد الانغماس في تفاصيل المسلمات لنقيِّم ما أنجزناه، ونقوم بمراجعة ما توصلنا إليه ونرى الصورة في أذهاننا بشكل أكبر وأوضح.
اليوم سنراجع المسلمات الثلاث. مسلمة التراكم القيمي، مسلمة التراكم المعرفي، ومسلَّمة التطور الإنساني. فمِن حسن الحظ أنَّ المسلمات الثلاث مرتبطة ببعضها في طبيعتها ويدلل بعضها على بعض. ولهذا دعونا نضعهن جميعاً في صورة واحدة، ومن خلال هذه الصورة الواحدة سوف نحاول توضيح معانيها المرتبطة أكثر من كوننا نقوم بالتلخيص، فدعونا ننطلق.
مسلَّمة التراكم المعرفي:
ببساطة، المعرفة تتراكم. لا يمكن شرحها بأكثر من هذه البساطة. جيل ما قبل 10,000 سنة كانوا يعرفون 10 معلومات. الجيل التالي لهم تعلم منهم هذه الـ 10 معلومات. هذا الجيل التالي بطبيعة الحال تعلموا 20 معلومات جديدة؛ وبالتالي صار عندهم 30 معلومة، 10 معلومات ورثوها من الجيل السابق لهم، و20 معلومة تعلموها من تجاربهم الحياتية، وبالتالي تراكمت عندهم 30 معلومة. الجيل الذي تلاهم بالطبع ورث هذه الـ 30 معلومة وتعلُّم 70 أخريات؛ وبالتالي تراكم في زمن هذا الجيل الثالث 100 معلومة، وهكذا دواليك. كل جيل يعرف ما عرفه الجيل السابق ويتعلم المزيد، وبل قدرته على تعلم المزيد ستفوق قدرة تعلم من سبقوه لأنَّ ما تراكم عندهم من معلومات سيعطيهم أفضلية اكتساب مهارات أكثر ويمكِّن أذهانهم من التفكير بشكل أفضل. بعد آلاف السنين، سيأتي جيل يعلم مئات آلاف المعلومات التي تراكمت عندهم وسينتجون معلومات جديدة بكفاءة أعلى بمئات المرات.
والنتيجة هي أنَّه من المُسَلّم به أنَّ كل جيل تتراكم عنده المعرفة وينتج معرفة؛ وبالتالي يصير أعلم من كل الأجيال التي سبقته. والمحصلَّة النهائية هي أنَّ تراكم المعرفة هو مسلمة ساطعة الوضوح.
مسلَّمة التراكم القيمي:
بنفس الطريقة وعلى نفس المنوال، فالإنسان يتعلم من خلال التجارب التي يمر بها. فالإنسان يتشكل لديه بشكل فطري يولد به منظومة قيمية أخلاقية يعرف بها الحسن من القبيح والسلوك الشرير من السلوك الخيِّر. فكما أسلفنا، فإنَّ الإنسان في أي مكان وزمان لديه قاعدة قيمية أخلاقية تقول له أنَّ القتل والسرقة والكذب والغش هي أفعال سيئة، بينما الصدق والرحمة والعطف والأمانة هي أفعال حسنة.
هذه القاعدة من القيم الأساسية. لا يهمنا إن كنَّا قد ولدنا بها أم تم اكتسابها من التجارب الإنسانية منذ وقت طويل جداً، لا يهم، المهم عندنا الآن هو أننا أمام منظومة قيم أخلاقية أساسية ثابتة في السلوك البشري منذ بداية تاريخ الإنسانية المعروف لدينا. ولأنها مجرد قاعدة أساسية، فهي لا تُعتبر كل ما يملكه الإنسان من قواعد قيمية أخلاقية، وإنما المنظومة الأخلاقية للإنسان هي أكبر وأشمل، لأنَّ تجربة الإنسان ومحيطه سوف يضيف إلى هذه القاعدة الأساسية قيم أخرى يصنف بعضها على أنه سيئ وبعضها على أنه حسن. ما نريد الإشارة له هنا هو أنَّ كل جيل لديه تجاربه الإنسانية التي ستؤدي حتماً للتعديل على منظومته للقيم والأخلاق بالزيادة عليها؛ وبالتالي ولأنَّ كل جيل إنساني يمر بطبيعة الحال بتجارب حياتية تختلف ولو بشكل بسيط عن تجارب الأجيال التي سبقته، فسيكون من المرجح أنَّ يحدث بعض التحديث على منظومة القيم الأخلاقية خلال فترة حياة أي جيل، مما يعني أنَّ التغيير على القيم الأخلاقية المتوارثة، قد يحصل وقد لا يحصل بين جيلين أو أكثر، لكنه سيحصل مع مرور عدة أجيال بكل تأكيد. ولهذا تجدر الإشارة هنا لحقيقة أن التراكم القيمي الأخلاقي هو في طبيعته أبطأ بكثير من التراكم المعرفي؛ لأنَّ التراكم المعرفي عبارة عن معلومة تنتقل من جيل للتالي بشكل مباشر، بينما التراكم القيمي الأخلاقي ينتج عن تراكم نتاج التجربة الإنسانية التي قد لا تكتمل إلا بمرور عدة أجيال. فالقيم الأخلاقية هي قناعات ومبادئ لا تتبلور إلا بعمق التجربة الإنسانية التي عادة لا تصل للعمق المطلوب في عمر جيل أو ربما أجيال عديدة.
النتيجة هي أنَّ القيم الإنسانية الأخلاقية تتطور بالتجربة مع الزمن عن طريق تراكم نتاج التجربة الإنسانية، ولذلك، يمكننا بوضوح رؤية أنَّ قيمة الإنسان وحقوقه في عصرنا هي أفضل من قيمته وحقوقه قبل 100 عام. وقبل 100 عام كانت قيمة الإنسان وحقوقه أفضل من قيمته وحقوقه قبل 1000 عام وهكذا.
مسلَّمة التطور الإنساني:
هذه المسلَّمة هي مركبة من وناتجة عن المسلمتين السابقتين. فبالتطور الإنساني نقصد تطور حياة الإنسان للأفضل. ولا تكون حياة الإنسان أفضل إلا إذا كانت له قيمة أفضل وحقوق أفضل ونمط حياة معيشي أسهل وأفضل. وهذا يتحقق بطبيعة الحال بتراكم المعارف التي تخلق نمط معيشي متطور بتطور الزراعة والصناعة والتكنولوجيا التي هي كلها نتاج لتراكم العلوم والمعارف من جيل لآخر. ويتحقق أيضاً بتوسيع وتحديث منظومة القيم الأخلاقية الإنسانية التي تتطور مع تطور التجارب الإنسانية بمرور الزمن. ومن خلال ما ذكرنا يتبيَّن لنا أنَّ مسلمة التطور الإنساني هي نتاج لمسلمتي التراكم المعرفي والتراكم القيمي الأخلاقي.
والخلاصة هنا هي أنَّ الإنسان وبكل وضوح يتطور للأفضل من جيل لآخر، وأنَّ حركة التطور هذه مستمرة منذ بداية الإنسان البدائي قبل عشرات آلاف السنين ومستمرة ليومنا هذا في عصر الفضاء وتكنولوجيا المعلومات. يمكن رؤية أنَّ الإنسانية تسير من أفضل إلى أفضل إذا ابتعدنا عن التفاصيل ونظرنا للصورة من أعلى لنرى صورة أكبر؛ وبالتالي أوضح. أعرف أنَّ هناك قلة قد يكون لديها شك في هذه المسلمات نتيجة معلومات موروثة تلقوها من هنا أو هناك، وليس لأنهم ينظرون للواقع بأعينهم. إنَّهم يستعيرون عيون غيرهم وعقول غيرهم ليحكموا على ما يرونه هم بأعينهم؛ وبالتالي لن نستعرب أنهم لا يقدرون على رؤية أشياء واضحة أمام أعينهم. عجزهم عن رؤية شيء يقف أمام أعينهم سببه هو أنهم أغلقوا عيونهم وقرروا استعارة عيون غيرهم ليروا من خلالها. إنه لمن العجيب أن نرى البعض يعتقد أنَّ الإنسانية تتخلف وتتدهور ولا تتطور.
هؤلاء غارقون في التفاصيل لأنهم ينظرون تحت أقدامهم. ولو أنهم ابتعدوا عن التفاصيل وارتفعوا بنظرتهم ووسّعوا زاوية رؤيتهم، لتمكنوا من رؤية الصورة بشكل واضح. فمسلَّمة التطور الإنساني لا يمكن رؤيتها إلا بالنظر من أعلى. وهنا أقصد بالنظر لتاريخ الإنسانية كاملاً وليس النظر تحت أقدامنا بالتركيز على تفاصيل ما يحصل عند جيل أو جيلين. عشرات آلاف السنين من تاريخ الإنسانية كفيلة بأن ترينا حقيقة أنَّ الإنسان يتطور مع مرور الزمن والأجيال، وأنَّ اتجاه التطور مستمر بدون انقطاع.
بمراجعتنا للمسلَّمات الثلاث ووصولنا لقناعة تامة بأنَّ الإنسانية تتطور مع مرور كل جيل ولو بشكل طفيف، فإننا نكون قد وضعنا قدم على أول طريق فهمنا لأنفسنا وما حولنا؛ لنصبح أكثر قدرة على تدريب عقولنا على استدعاء شعور #سعادة قد يخف، لكنَّه لا ينقطع. شعور طمأنينة قد يضعف، لكنه لا يختفي.
إنَّه مشوار #السعادة يا سادة.. فتابعونا لنكمل المسير.
ودامت أيامكم سعيدة.
No comments:
Post a Comment