تدبر القرآن كأنَّ وحيه اكتمل اليوم
مازلنا بفضل الله نسير في رسم منهجيتنا لتدبُّر وفِهم القرآن الكريم، فلابد أنَّ سر السعادة بداخله وأنَّ عظمة الله تنسحب على كلامه فلا نحتاج مع كلام الله قولاً آخراً لكي نسعد ونفوز في هذه الحياة وفي الآخرة.
لا شريك لله في ذاته ولا في فِهم رسالته ولا نقبل أن يكون له شريك لا في ذاته ولا في كلماته التامات، وهذا كان محور نقاشنا بالأمس عندما شرحنا أنَّ أول خطوة في منهجية الإقبال على القرآن لتدبره هي في أنَّ نعلم يقيناً أنَّ فهم القرآن لا يكون إلا من داخله لأن كلمات الله تامات، وأنَّ اكتمال الوحي كان اكتمال للدين وتمام لنعمة الله علينا كما قال عز وجل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وبالتالي، ولأنَّ كلمات الله تامات وأنَّ الله يعني ما يقول، فإنَّ فهم الدين بالفعل اكتمل بنزول آخرة آية من رسالة القرآن.
هذا كله يقود لحقيقة أنَّ كل كتب الأولين لفهم وتدبُّر القرآن هي مجهودهم واجتهادهم الذي سينالون عليه الأجر العظيم، لكنه لا يتجاوز حدود زمانهم، فكما كانوا عظاماً لأنهم آخذوا بزمام المبادرة وقاموا بواجبهم، يجب علينا أن نأخذ بزمام المبادرة مثلهم ونقوم بواجبنا بفِهم وتدبُّر القرآن بعيون عصرنا لا بعيون عصرهم، بعقولنا لا باستعارة عقولهم، بجهدنا لا باجترار جهدهم لكي نبرر تقاعسنا عن القيام بدورنا في تجديد تدبر القرآن في عصرنا. و كالمعتاد، لمن يهتم بمعرفة المزيد عن مناقشتنا لموضوع "تدبُّر القرآن من القرآن"، فليتفضل مشكوراً بمراجعة الموضوع في مدونة الصفحة والتي ستجدون رابطها من خلال رابط هذا المقال في نهايته.
اليوم بعون الله جل في علاه سندخل في النقطة الثانية من النقاط السبع في منهجية تدبُّر القرآن، والتي ذكرناها جميعاً في مقال سابق.
هذه النقطة تقول:
(أن نبعد أي فهم قديم عن عقولنا لأنَّ أي فهم مسبق سيكون مثل الغشاوة على العين التي لا تسمح لك بأن ترى عمق الأشياء)
بالطبع قد يعتقد البعض أننا ندعو لقطيعة مع الماضي وأننا نثور على الموروث ونستهزأ بعلماء السلف. هذا ما فهمه من يسيطر عليه التقليد الأعمى والسير على نهج الآباء وشعار الأمم السابقة التي هلكت بقولها ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) فَلَكَمْ كررت وقلت وأعدت، حتى أضجرت متابعينا الكرام، بأنني أرى فقهاء التراث رجال عظماء يستحقون كل الاحترام والتقدير، ويجب أن نقتدي بهم. ليس بترديد كلامهم ولا باجترار فهمهم والاتكال عليهم للتغطية على كسلنا وفشلنا، بل نقتدي بهمتهم وقدرتهم وشجاعتهم لمَّا قاموا بواجبهم بفهم وتدبُّر القرآن. كان يجب أن نفعل مثلهم ونقوم بفهم وتدبُّر القرآن، لكن للأسف قلدناهم في كل شيء. مشينا مشيتهم وقلدنا عيشتهم و ردَّدنا ما قالوا، لكن تركنا أهم ما كان يجب أن نقلدهم فيه وهي حقيقة أنهم تدبروا القرآن بعقولهم، وقدموا فهمهم وتفاسيرهم حسب أرضيتهم المعرفية والأخلاقية.
لا أعرف لماذا يجب أن نفعل كل ما فعلوه إلا شيء واحد و هو أن نتدبر القرآن بعقولنا كما تدبروه بعقولهم؟ بصراحة حالنا عجيب!
عموماً نقطة اليوم في منهجية تدبُّر القرآن تكمن في تجديد الفهم، وهو الأمر الذي بطبيعته يحتاج للنظر لما نريد تجديده من زوايا جديدة، كيف سنرى شيء مختلف ونحن ننظر من نفس الزاوية التي ينظر منها الجميع؟ القدرة على تغيير زاوية النظر هي مهارة ذهنية لا يمتلكها الجميع وإن كانوا يقدرون التدرب عليها؟ نعم إنها مهارة، ومهارة نادراً ما تأتي بدون تدريب. ولهذا من يتصور أنَّ تجديد فهم القرآن بعيون عصرنا سيعني أن يأتي مليار ونصف مسلم بفهم جديد فهو واهم لا يعرف طبيعة الأشياء، فالبعض يتخيل أننا لو فتحنا باب الاجتهاد والتدبُّر الذي يُفترض أن يكون مفتوحاً، فإننا سنصحو غداً لنجد أنفسنا غارقين في بحر من التفاسير التي قد يصل عددها لمئات ملايين التفاسير المختلفة. طبعاً هذه نظرة سطحية جداً للمشهد، فالمليار ونصف مسلم أصلاً منهم مليار و150 مليون مسلم لا يتحدثون العربية، والـ 350 مليون الناطقين بالعربية لا يقرأ ولا يكتب منهم قرابة الـ 100 مليون والمتعلمين منهم لا يصل لمراحل المساهمة في البحث العلمي منهم سوى نسبة أقل من 0.5% وهذه النسبة طبعاً في جميع المجالات.
فتخيلوا كم سيكون عدد الذين لديهم القدرة على القيام ببحث علمي في مجال العلوم الإنسانية بالذات وفي نفس الوقت يملكون مهارة النظر للأشياء من زاوية مختلفة.
لا أعتقد أنَّ هناك عاقل يمكن أن يتخيل أنَّ تدبُّر وتفسير القرآن هو أمر سهل يمكن لمن هب ودب أن يدخل فيه، وحتى بافتراض أنَّ هناك من لا يملك المهارات ولا القدرة و قدم تفاسير غير منطقية، فعدم منطقية تفسيره هي وحدها ستضعه عند حجمه ولن يلتفت له أحد لأنه ببساطة يقول كلام غير مرتب ولا منطقي ولا يقبله العقل المجرد السليم، ولهذا محاولته لن تصل حتى ليكون لها أي وزن.
أنا أتعمد أن أثير أمور جانبية في نقاشي للأمر لأنني أعرف أنَّ مثل هذه الأمور تدور في عقول الكثيرين، وأحب أن أقدِّم الردود على الأسئلة التي تجول بأدمغة المتابعين حتى قبل أن يسألوها، فعندما نقول أننا يجب أن نفتح باب التدبُّر والاجتهاد، فإننا نقصد أن نكون منفتحين على تقبُّل من يقدم لنا تدبر منطقي جديد، لأن ثقافتنا البالية تكفِّر وتحارب كل من يأتي بفهم وتدبُّر بعيون عصرنا، لأننا نرى أنَّ التجديد كفر ونصر على اجترار الفهم القادم من الماضي السحيق.
وعموماً فإنَّ إبعاد أي فهم قديم لا يُقصد منه القطيعة مع الماضي، وإنما هو أحد ضرورات الوصول لرؤية عصرية جديدة. لن نرى الجديد إلا بإغلاق أعيننا مؤقتاً وتخيل أننا لم نسمع شيء من القديم.
لتوضيح الرؤية أكثر، دعونا نقدم مثال عملي على ما أقول، لنأخذ قوله تعالى في سورة النساء (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لو سألنا مثلاً من هنَّ المعنيات بقوله تعالى (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)، فسيقول الغالبية العظمى هنَّ الجواري المملوكات، طبعاً كل من سيقول هذا لم يتدبَّر الآية بالطبع لا بعقله ولا بعيون عصره، وإنما يجري الجميع للتفاسير القديمة أو يستحضر ما سمع الجميع مما قيل لهم من الذين قرأوا التفاسير القديمة، لكن لو فكر أحدهم بالتدبُّر بعيون عصره واستخدام عقله وأبعد الفهم القديم تماماً من ذهنه، فسيرى أنَّ (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) لا يمكن أن تكون الجواري المملوكات، يمكن أن تكون أي شيء إلا أن تكون الجواري المملوكات. راجعوها بأنفسكم، وقبل أن أبيِّن ما أقصد، فسوف أعرج على فهم الأولين، الأولين من فقهاء التراث والمفسرين فهموها بعيون عصرهم واجتهدوا حسب ما وصل إليه زمانهم من أرضية معرفية وأخلاقية، فالرِق وبيع وشراء الإنسان لأخيه الإنسان كان أمر منتشر قبلهم بآلاف السنين، واستمر لزمانهم، وبقي بعدهم؛ ولهذا كان جزء من بيئتهم و فهمهم؛ مما سيؤثر على طريقة تفكيرهم وتدبرهم وسيصلون لتفسير وتدبُّر قد يكون مناسب لوقتهم أو لنقل أفضل ما يمكن الوصول إليه حسب معطيات زمانهم.
والآن دعونا ننظر بعمق ونتدبر الآية. لو بقينا ننظر من زاوية فقهاء التراث والمفسرين القدامى فسيشوش علينا هذا الأمر، ولن نستطيع أن نرى (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) إلا على أنها تعني الجواري المملوكات، وهذا بالضبط ما أقصده في هذه النقطة الثانية من منهجية فهم القرآن.
من المهم جداً استبعاد الفِهم القديم لأنَّه إن بقي في أذهاننا فلن نستطيع أن نرى صورة جديدة أو فهم جديد يتفق مع أرضيتنا المعرفية والأخلاقية التي وصلنا لها في زماننا، والتي تطورت لمدة تزيد عن الـ 1000 سنة بالمقارنة مع أرضية فقهاء التراث. لكن بمجرد ما نقوم بإجبار أدمغتنا على نسيان واستبعاد الفهم القديم، فسوف يمكننا رؤية شيء مهم جداً وهو قوله تعالى في نفس الآية (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حينها سننتبه بأنَّ (فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) لا يمكن أن تكون الجواري المملوكات، فالأمَة المملوكة هي إنسانة فقدت حريتها في الحرب بين بلدين أو جماعتين و تم بيعها في السوق مرة أو ربما عدة مرات حتى استقرت عند أخر شخص اشتراها بماله ..... و هنا الله يقول في بداية الآية أنَّ من لم يستطع أن يتزوج بمحصنة (فسروها على أنها الحرة)، فليتزوج من ملك يمينه و التي فسروها على أنها الجارية المملوكة. فقد قال جل في علاه (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)
وبالله عليكم، شخص ذهب للسوق واشترى جارية أصبحت ملك له، ولأنه لم يقدر على الزواج بحرة، فإنَّ الله قدم له البديل، وهو أن يتزوج ما ملكت يمينه التي فسروها على أنها الجارية المملوكة. بالله عليكم، أين سيجد أهلها ليستأذن منهم إن كان لها رجال مازالوا على قيد الحياة أصلاً؟ فلو كانوا أحياء ما كانت لتصبح جارية تباع في السوق، فالنساء يقعن في السبي نتيجة هزيمة الرجال في الحرب وقتلهم في الأعم الأغلب أو وقعهم في الأسر وبيعهم كعبيد. أين سيجد أهلها وهي على الأغلب لا تعرف أصلاً ما حل بهم وأين انتهى بهم المطاف.
الأمر الثاني الغريب، كيف يشترط عليه الله دفع مهر لأمَة اشتراها بماله وهو لا يحتاج أصلاً أن يتزوجها ليعاشرها أو ليفعل بها ما يشاء؟ منذ متى كان في عُرف الجواري قديماً أنَّ المالك يستمتع بجاريته مقابل أجر، وكلنا نعرف أنَّ فقهاء التراث أنفسهم يقولون أنَّ الاستمتاع بالجواري هو جزء من حقوق الملكية لهذه الإنسانة؟ كيف يشترط الله على (مَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)، كيف يشترط الله عليه إذن الأهل وفي نفس الوقت دفع الأجر؟
عندما وصل فقهاء التراث لنقطة إذن الأهل ودفع الأجر، خرجوا عن سياق الآية وصاروا يتحدثون عن أحكام تزويج العبيد والجواري إذا أراد غير مالك الجارية الجواز منها، في حين أنَّ الآية تتكلم عن مالك اليمين نفسه.
إنهم لم يتوصلوا لفهم منطقي لها لأنَّ أرضيتهم المعرفية والأخلاقية لم تكن كافية ليفهموها أفضل من هذا الفهم الغير سوي والمتناقض والذي ترفضه الآية نفسها، وأصلاً فكرة أن يأتي شخص حر ويتزوج جارية مملوكة لغيره فيستأذنه ويدفع المهر، هي فكرة أصلاً غير سوية لا عقلاً ولا شرعاً، فمن منهما يملك عصمتها ويجب عليها أن تذعن له؟ هل مالكها الذي يملك كل شيء حتى جسدها، أم زوجها الذي يعطيه شرع فقهاء التراث الحق حتى في ضربها إن لم تطع أوامره فإذا أمرها زوجها بخلاف أمر مالكها فلمن تسمع؟ أصلاً فكرة أن يتقدم رجل ما للزواج من امرأة يملكها رجل آخر ليملك هو عصمتها، هي في حد ذاتها فكرة خيالية سخيفة لا يتقبلها العقل لكثرة ما تخلقه من تناقضات
ولكي نلخص المثال، فأرجو أن تعودوا للآية والسياق وتركزوا جيداً. فالله يتحدث عن خيارات الزواج للمسلم ويقول له (مَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) وبالاستمرار في قراءة الآية سنجد أن الله جل في علاه يقول (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وهنا أصبح من الممكن أن تكون (مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) أي شيء إلا أن تكون جارية مملوكة. يمكن أن تفسر (مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) بأي شيء إلا أن نفسرها بالجارية المملوكة. هذا مستحيل خاصةً في عصرنا لأنه لم يعد أصلاً وجود للجواري المملوكات.
أعرف أنَّ المقال طويل، لكن نحن هنا نُأصِّل لقواعد ونريد أن نسير بهدوء وتأني لأنَّ الأمر جديد وشائك، ونحن في مشوار تجديد ما يعني أنَّ أول أسلحتنا للتقدم في المسير هي الصبر والذهاب عميقاً كلما فكرنا.
المهم أننا اليوم قد تناولنا النقطة الثانية من النقاط السبع في منهجية تجديد تدبُّر القرآن، ومن خلال مناقشتنا لهذه النقطة الثانية فقد فهمنا أننا لكي نستطيع الوصول لفهم جديد، فإنَّه يتعين علينا النظر للنصوص من زوايا جديدة وهو الأمر الذي يتطلب أن نستبعد أي فهم قديم من أذهاننا لكي ننجح في رؤية أي شيء جديد إن أمكن.
مشوارنا طويل ولابد لنا من معرفة أنَّ الوصول لشعور دائم #بالسعادة لابد وأن يكون له ثمن، وأول ما يجب أن نتوقع دفعه هو شعورنا بالألم والانزعاج لأننا نجبر عقولنا على العمل بعمق وبجد في أمور تعوَّدنا على أن نتلقاها بالتلقين والحفظ، فليس لنا إلا الصبر لنيل #السعادة.
مشوارنا طويل ولكن نهايته سعيدة بإذن الله.. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment