تمهيد وضع منهجيَّة تدبُّر القرآن
بالأمس قد بدأنا رحلتنا لتدبُّر القرآن، والتي يجب أن تكون ضمن منهجية واضحة. فتدبر القرآن هو أحد أهم مفاتيح التغيير الذي يسعى لإحداثه، فمعظم الجمود الذي نعاني منه كشعوب إسلامية يرجع لأسباب كثيرة من أهمها هو تجميد رسالة ربنا عند فهم عصر قديم، فبتجميد فهم القرآن وحصره في فهم السلف الذين عاشوا قبل قرون طويلة، تجمَّد تفكيرنا، و ضاق أُفقنا، وصار كل شيء يتقدم من حولنا بمرور الزمن ونحن متجمدون في مكاننا.
والنتيجة أمامكم، جهل وتخلُّف وانحطاط أخلاقي يضرب معظم المجتمعات الإسلامية حتى صرنا نحصد المراتب الأولى كلما تعلق الأمر بالتخلف والفساد.
اليوم سيستمر سَعْيَنَا الحثيث للتصحيح بتصحيح منهجية فِهم وتدبُّر أهم كتاب بين أيدينا وذلك بوضع منهجية لتدبُّر القرآن وفهمه، فأنا أؤمن أنَّ رسالة الله لنا هي من الأهمية بمكان، بحيث أنَّنا لو فهمناها بشكل صحيح، فسوف تنقلنا من ظلام الجهل إلى نور المعرفة ومن قاع التخلف إلى الريادة في القمة. إنَّها رسالة الله فكيف لا تؤثِّر في حياتنا.
من العيب أن ننسب القرآن لله ثم يكون هذا حالنا بكل ما فيه من انحطاط أخلاقي وتخلف معيشي، هناك خلل واضح وشيء غير سوي في عموم الحالة التي نمرُّ بها، ولأنَّ كلام الله نور وهدى، فلابد وأنَّ رسالة الله لم تصلنا وأننا مُعْرِضُونَ عنها دون أن ندري. نحن اجتررنا لقرون فهم وتدبُّر وتفاسير الأولين من فقهاء التراث للقرآن ومع هذا لم نزد إلا انحداراً وتخلفاً، كتاب الله مِشْكَاةٌ، فكيف لا ينير طريقنا إن كنَّا بالفعل نظن أنَّ رسالة الله قد وصلت إلينا؟ العيب في فهمنا للقرآن وليس في القرآن نفسه. من يدَّعي أنَّنا نملك تفسير القرآن وعندنا تدبره قاصداً به تفاسير وتدبُّر فقهاء الأوَّلين، فكأنما يدَّعي أنَّ رسالة الله لنا لا قيمة لها، وليست هدى ولا نور.
فكيف ندَّعي امتلاك مفاتيح فهمها دون أن تنقلنا من قعر التاريخ إلى قمة الإنسانية كما فَعَلَتْ مع جيل فقهاء التراث الذين عاشوا منذ أكثر من 1000 سنة؟ لو رجعنا للتاريخ وأمعنَّا النظر فسنرى أنَّ العرب قبل أن يأتيهم القرآن كانوا أكثر شعوب الأرض همجية وتخلُّف، وما أن جاءهم رسالة الله حتى صاروا في صدارة المشهد وأصبحوا رسل حضارة ترنو الأمم للوصول إلى ما وصولوا إليه. أليس هذا ما حدث؟ ألم تروا كيف فجَّرت رسالة الله (القرآن) طاقات البدو رعاة الشاة حتى تربعوا على قمة الحضارة؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرآن على الأمم وكيف يمكن أن ينقلها نقلة صاروخية يتعثر الزمن في سبيل اللحاق بها.
فلماذا ما عاد يؤثِّر بنا ولا بحالنا خاصة ونحن في قاع الحضيض وحالنا متردٍ مريض؟
الجواب أظنَّه قد وصل للجميع خاصةً من الذين تابعوا منذ بداية أول مقال لنا، فالخلل والعطب هو في أنَّه بيننا وبين القرآن حاجزاً، نحن لم نفهم القرآن ولم نتدبَّر رسالة الله، وإنما أوكلنا جيل سابق ليقوم بالمهمة بالنيابة عنَّا، رجعنا للخلف قرون وقرون ننبش في فِهم الأوَّلين نحفظه ونردده و نجتره ونعيد إنتاجه جيل بعد جيل حتى صار حالنا بالياً.
لقد ترَّبع جيل فقهاء التراث على قمة العالم لأنهم فهموه وتدبروه بعيون عصرهم وعملوا فيه اجتهاداً وفِهماً، فرفعهم و أنار طريقهم. وهذا ما نحن بحاجة لفعله.
أعدت هذا وكررته مراراً وتكراراً لأن هذا هو صلب المشكلة وأصل الداء، لأنَّ أغلبنا تربى على ما تربت عليه أجيال قبله بأنَّ القرآن لا نفهمه إلا من خلال السلف واجترار فِهم فقهاء التراث، وأنَّ أول فكرة تقفز إلى أذهاننا حين نريد تدبُّر شيء من القرآن هو أن نقفز لابن كثير وللطبري والزمحشري والرازي، وإن جاء أي مفكر معاصر بفهم و تدبُّر جديد تم استحراجه بأدوات عصرنا ، قامت في وجهه عاصفة من اللعن والتكفير لأنَّه خالف السلف وجاء بما لم نجد عليه آبائنا.
وبالوصول للمنهجية، يمكنك يمكن تنظيم منهجيتنا لفهم وتدبُّر القرآن ضمن القواعد السبع التالية:
أ- أن نفهم القرآن من القرآن لأنَّ مفاتيح فهمه موجودة بداخله
ب- أن نبعد أي فهم قديم عن عقولنا لأنَّ أي فهم مسبق سيكون مثل الغشاوة على العين التي لا تسمح لك بأنك ترى عمق الأشياء
ج- أن نفهم الآيات ضمن سياقها، وليس باقتطاع الجُمل وعزلها عمَّا قبلها وما بعدها من الآيات والجُمَل
د- أن نستخرج الخطوط العريضة التي يرسمها الخطاب القرآني على طول الكتاب وعرضه
هـ- أن نتذكر دائماً أنَّ القرآن به الكثير من القصص للعبرة، وأنَّ أكثر قصة موقعة فيه هي قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
و- أن نفهم أنَّ القرآن يتجدد، وأنَّ فيه ما سيكون فهمه مباشر لجيلنا، وأنه فيه ما قد يستعصي علينا الغوص في معانيه ومقاصده لأنَّ فيه عمق لن يدركه إلا الأجيال من بعدنا
ز- أنَّ ما نصل إليه من فِهم وتدبُّر يجب أن يكون إيجابياً ومثمراً ويناسب الأرضية المعرفية والأخلاقية لعصرنا أو يتفوق عليها
هذه القواعد السبع التي تمثل منهجية تجديد فِهم وتدبُّر القرآن ستمثل محور نقاشاتنا على مدى الأيام والأسابيع القادمة إن شاء الله.
أعلم أنَّ كثيرين ينتظرون بشغف فهم هذه المنهجية، ويمكن أن يتخيل البعض أنه يمكن وضع وتوضيح منهجية تجديد فهم القرآن من خلال مقال أو اثنين، إلَّا أنَّ الأمر للأسف لن يكون بهذه السهولة. نحن نسير بخطى ثابتة غير متسرعة لأنَّ أي تسرع في الوصول لاستنتاجات قد ينتج عنه إفاقة العواطف بداخلنا بعد أن استطعنا أن نرسلها لتنام في الخلفية عندما نخطط ونفكر. التسرع في عرض الأفكار وطرح المنهجية سيبعد العقل ويجعل العواطف هي من تصبح سيدة الموقف، وهذا ما نريد تجنبه. فالقرآن هو خطاب من الله للإنسان المكلف العاقل وهو خطاب عقلاني موجه لعقول العقلاء، ولهذا كان يجب أن نحرص بشكل كبير على استبعاد العاطفة خاصةً أننا أمام تغيير جوهري في حياتنا وطريقة رؤيتنا لأنفسنا وللأشياء من حولنا لنحس الرضا و# السعادة.
فلا تنسوا أننا في مشوار ورحلة تحمل اسم السعادة، وأنَّه لا يمكن أن نختصر السعادة في لحظة لأنها في حقيقتها أكبر من أن تكون مجرد لحظة.. فتسلَّحوا بالصبر والحماس.. وتابعونا.
No comments:
Post a Comment