هل معاجم اللغة هي الفيصل في فهم معاني المفردات في القرآن


هل معاجم اللغة هي الفيصل في فِهم معاني المفردات في القرآن



بصراحة تغمرني فرحة كبيرة كلما تابعت التعليقات والتأييد الواسع من قِبَل الفضليات والأفاضل المتابعين للصفحة. لم أكن أتوقع أن يكون وعي المسلمين قد ارتقى لهذا المستوى الرائع، فمتابعي هذه الصفحة هم بالآلاف ما يمكن اعتبارههم عينة عشوائية تصلح لأن نستخدمها لاستقصاء المعلومات عن حالة وعي شعوبنا، وبكل وضوح يمكن القول أنَّ شعوبنا اليوم صارت أكثر وعياً وإدراكاً لحجم الجهل والتخلف والانحطاط الذي نعاني منه. فلم تعد تخدرنا الفتاوى والمواعظ التي يراد لنا من خلالها الاقتناع بأنَّ تخلفنا ليس عيب، وانحطاط أخلاقنا ليس فيه مشكلة طالما أننا نسير على عمى خلف التراث والعادات والتقاليد التي ألبسوها لباس الدين فصارت مقدسة.
ذلك التراث وتلك التقاليد والعادات التي ما انفك شيوخ الفِرَق والنحل من تذكيرنا بها كل صباح  مساء، ليخبرونا أننا أفضل أمة على وجه الأرض، وأننا أعلى شأناً من كل أهل الأرض لأننا فقط ولدنا مسلمين، وأنَّ الدول المتقدمة ذهبوا بالدنيا ونحن لنا الآخرة، وأنَّ الغرب يقتات على علوم المسلمين واختراعاتهم وأن وأن وأن... مخدرات ومنومات ومهدئات نسمعها ليل نهار لكي نقبل ونتقبل واقعنا المزري المخزي.

التفاعل الذي أراه في هذه الصفحة يبيِّن بوضوح أنَّ وعينا ما عاد يقبل التغييب تحت الإرهاب الفكري الذي يمارسه المتشددون الذين أكبر شعاراتهم أنَّ الدين والعقل لا يلتقيان، فعقلك يجب أن يشتغل ويعمل إلى أن تقف في حضرة الدين، حينها يجب عليك خلعه من على رأسك كأنه قبعة، لأنَّ الله لا يحب أن نفكر في الدين بعقولنا فهي ما سيقودنا للضلال! فاحترام الدين عندهم أن تعطل عقلك وتنسى أنَّ لك الحق في التفكير والسؤال. وإذا استجبت لهم وخلعت عقلك من على رأسك صرت مؤمناً مسلِّماً ورضي عنك الله! يا له من منطق!

على العموم، سنستكمل مسيرتنا في النهوض بفكر وتفكير شعوبنا حتى نصل للسعادة ونكون راضين عن حالٍ رضا، ولسنا متخاذلين يغطون فشلهم بالتظاهر بالرضا. سنقوم بإذن الله في الأيام القليلة القادمة بالتدرب على استعمال قواعد منهجية فهم وتدبُّر القرآن السبع لكي نتمكن من فهمها بشكل أفضل ونكتسب قدرة على خلق علاقة مباشرة مع كتاب الله جل في علاه دون وسطاء وحُجُب، وبعدها بإذن الله سنتناول مواضيع حساسة مهمة تخص طريقة تعالمنا مع ما تركه لنا فقهاء التراث الأوائل. فكما ذكرت وكررت، فإنَّ فقهاء التراث كانوا عظماء وتركوا لنا منهجية للفهم والتطوير والتي تخاذلت الأجيال من بعدهم وقرروا تقليدهم في كل شيء إلا منهجية الفهم والتدبر. فللأسف تم وضعها في قائمة المحذورات والممنوعات الموبقات.
سنبدأ ربما بعد أسبوع إن شاء الله في وضع منهجية للتعامل مع ما وصلنا من روايات وكتب جمعها وكتبها فقهاء التراث.

أمَّا اليوم، فسوف نتناول أمر يخص قاعدتنا الأولى من القواعد السبع لتدبر القرآن الكريم. هذه القاعدة هي أن نتدبر القرآن يكون من القرآن، وهنا أنا لا أنوي تكرار شرحها وإنما إضافة توضيح أمر مررنا عليه بعجالة، وكذلك تقديم أمثلة إن أمكن. فلو تذكرتم، فإننا تناولنا موضوع المعاجم اللغوية على عجالة في مقال مراجعة القواعد السبع.
ذكرنا في ذلك المقال - وأنا هنا اقتبس - أنَّ معاني المفردات لا تؤخذ من المعاجم وإنما من القرآن نفسه بعمل مقاطعة بين النصوص التي ظهرت فيها المفردة اللغوية كي نخرج بالمعنى الأقرب. فالمعاجم كلها تم كتابتها بعد قرون من نزول القرآن وأقدمها تم كتابته حوالي 150 سنة بعد تمام نزول القرآن، أي أنَّ معاجم اللغة نفسها تبتعد بقرون عن زمن القرآن، وهو الأمر الذي يعني أن أقدم كتاب يمكن الرجوع إليه لفهم معاني مفردات القرآن هو القرآن نفسه. فلمن لا يعلم، فاللغة تتغير دلالات ألفاظها مع الزمن حتى تصبح مختلفة كثيراً بعد قرون لدرجة أنها قد تتحول إلى لغة مختلفة بالكامل، ومرور قرون بين كتابة المعاجم وبين زمن القرآن الذي كان يخاطب العرب بلغتهم في ذلك الوقت، بالإضافة لدخول ملايين من الشعوب الناطقة بلغات أخرى للإسلام، فهذا يعني أنَّ المعاجم اللغوية لن تقدم معاني دقيقة للألفاظ بمستوى الدقة في حال استخرجنا المعنى من القرآن نفسه. 

لذلك، فإنَّ أول وأهم وأفضل وأدق طريقة لتدبر وتفسير القرآن هي من القرآن نفسه، وهي عملية شاقة وليست سهلة لأنها تتطلب جهد كبير لمقاطعة النصوص التي تحوي المفردة التي نبحث عن معناها.

ولتوضيح الفكرة بشكل أفضل، فإنه من المفيد توضيح بعض الأمور عن معاجم اللغة العربية المتداولة اليوم من خلال النقاط التالية:

  1. كل معاجم اللغة العربية الموجودة اليوم ظهرت بعد نزول القرآن بقرون وأقدمها ظهوراً ظهَر بعد القرآن بـ 150 سنة.

ب) الغرض الأساسي من أشهر المعاجم المستخدمة اليوم زمن ظهورها كان هو لمساعدة الأعاجم من البلدان التي دخلها العرب على تعلم نطق ومفردات اللغة العربية، ولهذا لم تكن المعاجم في أصل نشأتها لتعليم الناطقين بالعربية دقائق المعاني والألفاظ العربية، وإنما لتبسيط ألفاظ ومعاني اللغة العربية لغير الناطقين بها، أي أنها كانت لا تقدِّم عمق لغوي ولا دقيق وفريد المعاني في لسان العرب.

ج)  معظم المعاجم وأشهرها لم يهتم بلغة العرب النقية في البوادي العربية، لأنَّ المستهدفين بالمعاجم كانوا هم الأعاجم الذين يعيشون في الحواضر العربية، حيث كانت معظم المعاجم تقدم شروح لنطق ومعاني المفردات الدارجة في الحواضر العربية حيث دخلت الكثير من الكلمات الجديدة على لسان العرب، وحيث تغيرت الكثير من دلالات الكلمات في الحواضر عن معانيها الأصلية. للتذكير، فإنَّ الحواضر العربية يُقصد بها المدن الكبيرة التي يعيش فيها أناس من أعراق و أصول مختلفة يتحدث بعضهم لغات غير العربية، وفي مقابل الحواضر العربية، تأتي البوادي العربية حيث يعيش عرب أقحاح غالباً ما يكونون من قبيلة واحدة ولا يختلط بهم الأعاجم.

بتلخيص النقاط الثلاث أعلاه، فإنه يمكن جمعها معاً بالقول بأنَّ معاجم اللغة التي نستخدمها اليوم لا تُعبر عن لغة القرآن بدقة حيث أنها جاءت بعد قرون من نزول القرآن، مما يعني أنَّ لغة قريش ومدلولات ألفاظها تختلف بكل تأكيد عن لغة العصر العباسي ومدلولات ألفاظ الكلمات فيه، وفي الأصل هي (المعاجم) كانت موجهة لغير الناطقين بالعربية ما يعني أنها لن يكون فيها العمق اللغوي ولا الدقة الدلالية لمثيلاتها من الألفاظ في القرآن، فكثيرون للأسف يجعلون المعاجم اللغوية حاكمة على دلالات ألفاظ القرآن بينما القرآن هو الذي يجب أن يكون الحاكم عليها، أي أنَّ البعض يفسر القرآن بجعل المصدر الأول لاستنباط معاني مفردات القرآن من المعاجم، وهو الأمر الذي لن يكون دقيق فضلاً عن أن يكون صحيح.

وإذا نظرنا لحقيقة أنَّ اللغة في أصلها هي نشاط إنساني اجتماعي يعكس في أغلبه البيئة والثقافة، فإنه سيكون من السهل معرفة أنَّ اللغة تتغير دلالات مفرداتها بمرور الزمن كنتيجة للتغير الطبيعي للثقافات والنشاطات المجتمعية. وكنتيجة أيضاً، فإنَّ أفضل وأدق طريقة لتفسير مدلولات مفردات لغة أي كتاب، وليس القرآن فقط، هي من خلال محاولة الوصول للمدلولات الألفاظ من داخل الكتاب نفسه، ثم يأتي بعد ذلك أي كتاب تم كتابته ضمن نطاق جغرافي وزمني قريب لمؤلف الكتاب، فكلما ابتعدنا زمنياً أو مكانياً عن زمن ومكان حياة الكاتب أو الفئة التي يخاطبها الكتاب، كلما قوي احتمال أن تختلف دلالات الكلمات الأصلية عن مثيلاتها في ذلك الزمان أو المكان المختلف، ولهذا فإنَّ أفضل وأدق طريقة لفهم دلالات المفردات القرآنية هي من خلال استنباطها من القرآن نفسه، وليس من معاجم اللغة طالما كان ذلك ممكناً.

لكن، كيف يتم البحث عن معاني الألفاظ القرآنية من القرآن نفسه؟ 
الجواب هو أنَّ يتم الأمر بالبحث عن المفردة اللغوية والكلمات المشتقة منها أو من نفس جذرها على طول القرآن وعرضه. وبجمع تلك الآيات والجمل القرآنية ومقاطعتها مع بعضها، سيكون من الأسهل الوصول لمعنى دقيق لدلالة اللفظ الذي نبحث عن معنى دقيق له. وأحد الأمور التي يجدر الانتباه لها في هذا المقام هو حقيقة أنَّ مقاطعة الآيات والجمل القرآنية في كتاب بحجم المصحف الذي يحوي قرابة الـ 600 صفحة هو عمل شاق ومرهِق ويحتاج لوقت طويل مع عدم ضمان دقة البحث لصعوبة المهمة.
لكن لحسن الحظ، فإنَّ هذه الصعوبة التي أتحدث عنها هنا، كان فقط يواجهها فقهاء التراث والمفسرون القدامى وهي منعدمة في عصرنا، فلو افترضنا أننا نريد أن نبحث عن المدلول الدقيق لمعنى كلمة "سماء" في آية قرآنية، فإنَّ هذا سيتطلب عمل شاق قد يمتد لأسابيع كي يقوم أحد الفقهاء القدامى بمقاطعة معاني لفظة "السماء" التي ظهرت 115 مرة على طول القرآن وعرضه، بينما نحن في عصرنا الحديث لا نحتاج إلا لأجزاء من الثانية كي نجد كل تلك الجمل القرآنية ماثلة أمامنا لنبدأ في عملية المقاطعة بين الجمل لنصل لمعنى أدق وأقرب للسياق.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة