التفاعل مع تعليقات مقال زواج المسلمين بغير المسلمين

حسب اطلاعي على التعليقات على مقالنا الأخير بخصوص زواج المسلمين بغير المسلمين, لاحظت أنه و كالمعتاد هناك فئة قليلة من الذين تصنموا على ما وجدوا عليه آبائهم فهم لهم مقلدون ... هذه الفئة القلية تمارس هوايتها في السب و الشتم و الاعتراض دون حتى القدرة على تقديم أي شيء يبيّن أنهم يفهمون حتى ما يعترضون عليه ..... لكن للأمانة, فإن هناك فئة أخرى اعترضت على بعض ما جاء في المقال باحترام و أخلاق عالية و قدموا مسوغات الاعتراض .... و لأجل توضيح الأمور أكثر, فقد قررت أن أكتب اليوم مقال بسيط لتوضيح فكرة مقال زواج المسلمين بغير المسلمين و لتقديم بعض الإجابات على الاسئلة الموضوعية التي وردت في التعليقات .... و لكي تكون الأمور أسهل, فسوف أضع كل التوضيح و الردود في نقاط كالتالي:
.
أ) الهدف من المقال أصلاً ليس لتحليل شيء و لا لتحريم شيء.... كل هدفي من المقال هو أن أقدم مثال عملي على طريقة تطبيق قواعد منهجية تدبر القرآن السبع .... أنا لست مفتي و هدفنا هو تغيير طريقة تفكيرنا المتجمدة حول فكرة حاجتنا لمن ينوب عنا لفهم ديننا و يفتي لنا و النظر لكل شيء على أنه حلال أو حرام .... أنا هنا لا أفتي و لا أحل و لا أحرم و إنما نتعلم معاً طريقة تدبر و تحليل آيات القرآن.
.
ب) اختياري لموضوع زواج المسلمين بغير المسلمين كان سببه هو أنه مثال ممتاز يبيّن أزمتنا الفكرية ... فالغالبية العظمى من المسلمين ورثوا فكرة أن زواج المسلمين بغير المسلمين أمر محرم لا جدال فيه رغم أن مئات الملايين الذين يرددون هذا الأمر لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث و التدقيق في حقيقة الأمر .... شيء ورثناه عن آبائنا الأولين فجعلناه ديناً مقدساً نسب و نشتم و نكفّر و نزندق كل من قال بخلافه أو حتى دعانا للتفكير فيه ...... المهم أن سبب اختياري هو لأنه إذا فحصنا الآيات القرآنية بخصوص المسألة سنجد عند بحثنا لها بعمق ضمن قواعد منهجية للتدبر, إذا فحصناها فسنجد أن مسألة التحريم غير دقيقة و تخالف القرآن نفسه و بالتالي فهذا الموضوع يعتبر مثال ممتاز للتدرب على فهم القرآن ضمن منهجية بحث و ليس في إطار تقليد و ترديد.
.
ج) هناك أية تحريم صريحة واضحة و مباشرة تحدد الفئات المحرم الزواج بها و هي في سورة النساء الآية 23 و التي تقول (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)
هذه الآية حصرت التحريم في أسباب بيولوجية وراثية لا علاقة لها بالعقائد لا من قريب و لا من بعيد ... و الأهم أن التحريم جاء مباشر و واضح و لم يذكر المشركين أو المشركات ما يعزز فكرة خصوصية آية سورة البقرة 221 (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ), و أن حكم هذه الآية هو خاص بفئة محددة بعينها من مشركي ذلك الزمن.
.
د) تعميم تحريم الزواج بغير المسلمين باستخدام الآية 221 في سورة البقرة يجعل الآية تتناقض مع الآية 5 من سورة المائدة (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) و هي الآية التي تبيح الزواج من أهل الكتاب و الذين هم بطبيعة الحال مشركين من ناحية العقيدة .... فزمن نزول القرآن جاء بعد أكثر من 600 سنة من رفع المسيح و كلنا يعرف أنه لم يعد هناك من النصارى من يؤمن بأن عيسى عليه السلام هو نبيٌ مرسل زمن نزول القرآن ... أي أن كل عقائد النصارى في زمن نزول القرآن هي عقائد شركية تجعل عيسى إما أنه هو الله نفسه أو هو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة و هي كلها عقائد شركية بدون أدنى شك .... فحتى لو كان هناك من يتحجج باحتمال وجود موحدين من النصارى زمن نزول القرآن, و لو سلّمنا بوجود بعضهم في ذلك الزمان, فهم أولاً لا يؤمنون برسالة النبي محمد عليه السلام و إلا صاروا مؤمنين و لا يصح أن نسميهم نصارى ... و الأهم حتى لو افترضنا وجودهم زمن نزول القرآن, فهم بكل تأكيد قلة قليلة مقارنة بالأغلبية العظمى من النصارى إن كان لهم وجود أصلاً ... ما يعني أن الآية 5 من سورة المائدة كان يجب أن تذكر هذه الفئة الموحدة بصفة أخرى غير صفة الذين أوتوا الكتاب التي وردت في مواضع كثيرة أخرى مرتبطة بالكفر و الذم مثل قوله تعالى في نفس سورة المائدة الآية 57 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) .... و بالتالي تعميم الآية 221 في سورة البقرة يتصادم مع الآية 5 من سورة المائدة و بالتالي يُضعف احتمال أن تكون الآية 221 من سورة البقرة هي آية عامة, و هو نفس الأمر الذي يصب في تقوية فكرة أن تحريم الزواج بغير المسلمين في الآية 221 في سورة البقرة هو أمر خاص بفئة معينة من المشركين الذين عاشوا زمن نزول القرآن و لا يمكن تعميمها على كل زمان و مكان.
.
هـ) النقطة الحاسمة من وجهة نظري هي حقيقة أن نفس السياق يحتوي على تشريع و حكم خاص ليس فقط بالفترة الزمنية التي نزل فيها القرآن, و إنما فترة زمنية محدد جداً ضمن الفترة الزمنية التي نزل فيها القرآن .... فلو نظرنا للأية 219 من سورة البقرة, سنجدها تتحدث عن الخمر كالتالي (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) .... هذا النص القرآني جاء فقط آيتين قبل الآية التي تمنع الزواج بالمشركين ... آية الخمر هي الآية 219 ... و آية الزواج بالمشركين هي الآية 221 .... أي أننا نحن بالفعل ضمن نفس السياق و لا يمكن تقطيع السياق و فصل هذه عن تلك إلا إذا اردنا أن ننتقي بشكل عشوائي حسب أهوائنا.
الآية 219 من سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) لا تُحرّم الخمر كما يعلم الجميع .... فلا يوجد أحد لا قديماً و لا حديثاً يدعي أن هذه الآية تُحرّم الخمر و إنما يضعها كثيرون ضمن سلسلة آيات تدرجت في التضييق على الخمر قبل أن يأتي حكم التحريم في آية أخرى ..... و هذا يعني أن الآية تبيح الخمر و لكنها تذكر أن مضاره أكثر من منافعه .... فبتعميم هذا الحكم على كل الأزمنة و الأماكن, فسوف نخرج بنتيجة أن الخمر مباح في كل زمان و مكان, لكن كلنا يعلم أن هذا لم يكن حكم مطلق و إنما حكم الإباحة كان خاص ليس فقط بأناس بعينهم, و إنما ايضاً بفترة زمنية محددة من حياة أولئك الأشخاص المحددين الذين سألوا عن الخمر في الآية .... أي أننا أمام قرينة قوية في نفس السياق أن هذا السياق فيه أحكام مؤقتة و محددة بشكل خاص بفئة و زمن خاص و ليست مطلقة و عامة على كل زمان و مكان ..... و بالتالي من الطبيعي و المنطقي و لأن الآية 221 (آية تحريم الزواج بالمشركين) جاءت ضمن سياق سؤال و جواب, فبالتالي من الطبيعي و الأقرب للمنطق و الصواب أن نفهم أن هذا التحريم على أنه خاص بفئة محددة من المشركين و بزمن معين زمن نزول القرآن .... فكما ذكرنا في المقال الأصلي, فإن السياق الذي وردت فيه الآية جاءت فيه كلمة (يسألونك) خمس مرات قبل و بعد الآية 221, أي أننا أمام سياق خاص يتعامل مع حالات خاصة للسائلين و يعطي أحكام خاصة بالسائلين و زمن سؤالهم, مثل إباحة الخمر ضمن السياق ... فلماذا يُراد لنا أن نترك كل علامات الخصوصية و نعترف بخصوصية السياق بالنسبة للخمر و نتمسك بالتعميم على منع الزواج بغير المسلمين ؟؟؟؟؟ .... هذا انتقاء غير منضبط و لا يقوم على أسس و قواعد منطقية.
.
و) لجعل المسألة أكثر سهولة و وضوح, فإن الآية تحمل سر فهمها بين دلالات كلماتها .... فقد قال الله جل في علاه (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) .. ثم اتبعها مباشرة و بدون أي فواصل بذكر العلة من المنع بقوله (أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) .... أي أن علة التحريم واضحة وضوح الشمس و مذكورة بشكل مباشر غير قابل للتشكيك .... العلة من منع الزواج بالمشركين ليس لأن معتقدهم شركي و إنما لأنهم "يدعون" ..... ركزوا على لفظ "يدعون" لأن الله لا يضيف كلام يحشو به الآيات تعالى عن هذا علواً كبيراً ..... "يدعون" ...... أي أنهم لا يكتفون بالاعتقاد الشركي في قلوبهم, و إنما يعملون دعاية له و يدعون له و يقومون بجهد و ينفقون وقت للدعوة إلى الشرك ..... و هذا بالطبع ما كان يفعله مشركي قريش الذين لم يكتفوا بتكذيب النبي و الذي لم يكن يريد منهم أكثر من أن يخلّوا بينه و بين الناس و لهم دنهم و له دينه .... لكن هؤلاء المشركين لم يتركوا داعي الله يدعو لله و إنما عملوا دعوة ضده و ضيقوا عليه و حاربوه .... لهذا جاء أمر الله بمنع الزواج منهم ...... نحن أصلاً أمام أمر محسوم حسمه الله ذاته جل في علاه .... فقد منع الزواج بالمشركين و حدد سبب المنع أيضاً ..... و رغم أن سياق المنع خاص كما بيّنا أعلاه, إلا أن العلة هي ما يمكن تعميمه .... فلو كان في زماننا أو أي زمن مشركون يحاربون الله و دعوة الحق, فبكل تأكيد لا يصح و لا يجوز الزواج بهؤلاء المحاربين الداعمين للباطل السائرين على درب النار ..... هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن تعميمه في السياق و هو العلة إن تكررت ظروفها
لكن كلنا يعلم أن الغالبية العظمى من أصحاب العقائد الشركية بما فيهم عقائد اليهود و النصارى الشركية, الغالبية العظمى منهم لا تحارب دعوة الله الحق و لا تناصبها العداء و بالتالي لا توجد علة لمنع الزواج بهؤلاء ..... و من توفرت فيه شروط محاربة الله فلابد بأن الزواج بهؤلاء ممنوع.
.
الخلاصة هي أننا أمام سياق خاص جداً خصوصية حكم إباحة الخمر فيه, و الأهم هو أن علة منع الزواج بغير المسلمين مقرونة بشكل صريح بالمنع نفسه, ما يعني أن ظروف منع الزواج بغير المسلمين و علة المنع, ستكون هي الأمر الوحيد الذي يمكن تعميمه بحيث تكرار ظهور العلة سيسوّغ تكرار ظهور المنع. و في الختام ... و للتذكير ... فنحن هنا لسنا بصدد إصدار فتاوي و تحليل و تحريم و إنما نحن بصدد فهم قواعد منهجية تجديد فهم و تدبر القرآن الكريم ...... و دمتم في #سعادة ...... فتابعونا

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة