هل كل كلام النبي الذي نطق به وحي (المقال المختصر)

هل كل كلام النبي الذي نطق به وحي (المقال المختصر)
حسب مخططنا لوضع قواعد لمنهجية التعامل مع الروايات فإننا اليوم قد وصلنا للنقطة الثالثة ضمن المواضيع التمهيدية التي نحن بصدد مناقشتها كي تكون أرضيتنا لطرح تلك القواعد. فبعد أن ناقشنا طريقة وصول الروايات لنا وطريقة وصول القرآن لنا وقارنَّا بينهما، جاء الآن الدور على طرح موضوع جوهري ومهم، وهو هل كل كلام نطق به النبي صلى الله عليه وسلَّم وحي؟

هذا الموضوع سيضع كثير من الأمور في نصابها ويجعلنا نضع أيدينا على أحد أكثر أسباب انحراف فهم المسلمين لدينهم حتى صاروا في مؤخرة وذيل الأمم رغم أنَّ كتاب الله بين أيديهم. اليوم سنقدم المقال المُفصَّل للموضوع حيث أننا تناولنا المقال المختصر بالأمس.

وكما تعلمون فمحور النقاش هو إدِّعاء بعض فقهاء السلف وكثير من مقلديهم اليوم بأنَّ كل ما قاله النبي ونطق به زمن حياته هو وحي من الله مستشهدين بقوله تعالى في سورة النجم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ). ولهذا هم يدَّعون إدعاء غير صحيح بأنَّ هناك وحي من الله للنبي موازي للقرآن أطلقوا عليه إسم السنة. وهو كل "ما صح" من الأقوال المنسوبة للنبي. وهذا كله مغالطات في مغالطات ما أنزل الله بها من سلطان وبطلانها واضح بحيث لا يحتاج إلا إلى بعض التركيز لتفكيك كل هذه الادعاءات غير الصحيحة. والتالي هو توضيح حقيقة هذه الإدعاءات والتي أحب أن أضع مناقشة موضوعها في نقاط لأنَّ هذا يساعد في رؤية صورة أفضل:

  1. أولاً هذا لا يصح لا عقلاً ولا منطقاً إذ أنه سيعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في حالة وحي مستمر غير منقطع منذ لحظة أن نزل عليه جبريل بقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى آخر كلمة نطق بها النبي قبل وفاته، وكأن النبي تحول إلى رجل آلي تم توصيله بقناة إرسال أسمها جبريل بحيث أنه لا يحرك لسانه إلا بِجُمَلٍ و كلام يلقنه له جبريل عليه السلام! هذا ما يقصده كل من يقول أنَّ كل نطق النبي وحي.
الخلاصة هو أنَّ من يقول بأنَّ الروايات وحي ويستشهد بالآية التي يقول فيها ربنا عز وجل (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) كلهم يدعي بأنَّ تفسيرها هو أن الله يقول لنا أنَّ كل ما ينطق به النبي وحي - لاحظوا كل ما ينطق به ... كل ما - أي نطقه كله عليه السلام. وهذا غير منطقي لأنه يعني أنَّ النبي كان في حالة وحي مستمرة مدة 23 سنة هي زمن البعثة.

  1. الحقيقة هي أنَّ الآية تتكلم عن الوحي والذي هو القرآن. أي أنَّ قوله تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) يعني أنَّ القرآن الذي نطق به النبي لم يكن على هواه وإنما كان وحي من الله وهو ما يتناسب مع سياق الآية التي سبقها مباشرة قوله تعالى (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ). أي أنَّ الآية تتكلم عن نطق النبي بالقرآن وليس عن نطقه بكل كلمة قالها سواءً كان قرآناً أو كان غير القرآن. 
و بتطبيق قواعد منهجية القرآن السبع التي قدمناها سابقاً، سنجد أنَّ التفسير التراثي يتناقض مع آيات أخرى في القرآن مثل قوله تعالى في سورة التوبة (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، فبطبيعة الحال لو كان أحد أصحاب النبي حاضراً في أثناء إذن الرسول للمنافقين بالقعود لَمَّا استأذنوه، ثم روى الحادثة لأحدهم الذي رواها بدوره لغيره حتى استقرت الرواية في أحد كتب الحديث، فلابد وأنَّ النبي عندما أذن للمنافقين قال شيء ما لهم مثل أن يقول "أذنت لكم بالقعود" أو ما شابه من التعبيرات المؤدية لمعنى الإذن لهم بالقعود، فسيقول من يدعي أنَّ كل الروايات وحي، سيقول أنَّ هذا وحيٌ من الله لأن الله قال (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) وهذا تناقض صريح جداً وواضح جداً إذ كيف يوحي له الله بالنطق بكلمات الإذن للمنافقين ثم يلومه على الإذن؟ لا يعُقل هذا!، إمَّا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم يتكلم كلام بشر مثله مثل باقي البشر في غير القرآن يصيب و يخطأ، وإمَّا أنَّ القرآن متناقض. وبالطبع نحن نعرف أنَّ القرآن ليس فيه تناقض وأنَّ التناقض يحدث عندما نفسر القرآن بشكل غير صحيح ونجزم قطعاً أنه مراد الله والله بريء من قصور فهمهم لآياته.

ج) بما أنَّ من يقول أنَّ كلام النبي في الروايات وحي من الله، وأنَّ النبي لا ينطق إلا بالوحي أي لا يقول شيء إلا من عند الله وليس من عند نفسه البشرية، فهُم بالطبع يؤمنون بالروايات، وخاصةً الواردة في الكتب الستة والتي يصنفونها على أنها صحيحة. أي أنها حجة عليهم كونها من قواعد الأرضية المعرفية التي يقفون عليها. ولهذا هناك الكثير من الروايات تبيِّن بكل وضوح أنَّ النبي يجتهد اجتهاد البشر ويتكلم كلام البشر وليس كل ما ينطقه وحي. روايات مثل رواية أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بنزول جيش المسلمين في معركة بدر في موضع ما، وهو الأمر الذي استدرك عليه فيه أحد أصحابه واقترح أن ينزلوا أمام آبار بئر بدر لكي لا يصل جيش كفار قريش للماء فأخذ النبي برأيه لأن َّرأيه كان أفضل. السؤال هنا: هل كان كلام النبي في الحوار الذي دار بينه و بين صاحبه الذي قدَّم الاقتراح، وحياً أم كلام بشر؟ 
كلام بشر بالطبع، لأنَّ الله لا يوحي له برأي يمكن للبشر أن يأتوا بخير منه.

وهناك حادثة تأبير النخل الشهيرة التي أمر النبي أصحابه فيها ألا يلقحوا النخل فلم تنجح عملية التلقيح. هل كان الكلام الذي نطق به في أمره بعدم تأبير النخل حينها وحياً أم أنه كان من كلام البشر الذي يصيب ويخطأ؟ كلام بشر بالطبع، لأنَّ الله لا يوحي له بفعل شيء لا يصلح. إذا لماذا يلبسون على الناس دينهم ويضللونهم ويقولون لهم أنَّ كل كلام النبي وحي والأحاديث وحي؟ الروايات نفسها تثبت بطلان هذا الادعاء وتبيَّن أنَّ النبي بشر ينطق بكلام بشر وينطق بالوحي عندما يأتيه الوحي، وبالتالي ليس كل ما قاله النبي في الروايات هو وحي معصوم وإنما قول بشر غير معصوم عن الخطأ.


د) هل يستطيع أن يقوم أي شخص من الذين يدعون أنَّ كل كلام النبي وحي وأنه لا يتكلم كلام البشر الذي فيه صوابٌ وخطأ، هل يستطيع أصحاب هذا الإدعاء أن يُقْسِموا بالله يميناً يُحاسبون عليه أمام الله يوم الحساب بأنَّ كل ما قاله النبي في حياته قد وصلنا وكل كلمة نطقها قد وصلتنا برواية صحيحة؟ هل يستطيع أي منهم أن يقدم هذا القسم؟ 
بالطبع بعيداً عن المقلدين غير المتعلمين، فأنا متأكد أنَّ أصحاب الاختصاص وأي متبحر في علوم الدين سواء سميناه أمام أو عالم أو فقيه، هؤلاء لن يجرئ أحد منهم على القسم لأنهم كلهم يعرفون أنَّ النبي قد قال كلام كثير لم يصلنا خاصة تلك الكلمات التي كان ينطقها في بيته وفي خلواته مع زوجاته وبناته وأهل بيته. ما وصلنا من كلام النبي وتم تصنيفه على أنه صحيح لا يمثل حتى 10% مما قاله النبي عليه السلام . وبالتالي، وأهل الاختصاص يعلمون هذه الحقيقة، فإنَّ أكثر من 90% من الكلمات التي نطقها النبي لم تصلنا.
ولو آخذنا برأي من يدعي بأنَّ النبي لا ينطق إلا وحياً، فحينها يمكن أن نقول بأنَّ هؤلاء يتهمون الله بأنه لم ينجز وعده وأنه قد ضاع من الدين أكثره. فلو كان النبي ينطق وحياً غير القرآن. فهذا يعني أنَّ الروايات كلها أو أغلبها وحي. وهذا بدوره يعني أنها دين. وبما أنه لا أحد يدعي أصلاً أنَّ كل ما نطقه النبي قد وصلنا، فالنتيجة المباشرة هي أنَّ جزء كبير من الدين ضاع، فكل قول قاله النبي هو وحي. وكل قول قاله النبي ولم يصلنا، هي تعني أنَّ جزء من الوحي ضاع. أي أن الدين ضاع منه الكثير، ولأننا نعرف أنَّ الدين لم يضع منه شيء وأنَّ الله تكفل بحفظه، فإننا نقول أنَّ النبي بشر ينطق كلام البشر وينطق الوحي فقط عندما ينزل عليه القرآن. أي أنَّ الوحي هو القرآن فقط وليس روايات الآحاد الأفراد عن الآحاد الأفراد بعد جمع هذه الروايات على بعد أكثر من 200 سنة من الزمن على حصول أحداثها.


الخلاصة هي أنَّ المقولة الشهيرة التي تقول أنَّ كل كلام النبي وحي هي مقولة باطلة تسئ للذات الإلهية وتطعن في الدين. والعجيب أنَّ من يدافع عن هذه المقولة هم من يتهمنا بأننا نطعن في الدين. و والله ما طعن في الدين واكتماله و جماله أحدٌ غيرهم ولكنهم لا يعلمون.
نكتفي بهذا القدر على أن نقدم المزيد في تناول موضوع نطق النبي بالوحي في مقال الغد المُفصَّل بإذن الله.
غداً نستكمل المسير نحو #السعادة.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...

مقالات سابقة