مفهوم علاقة النبي بأصحابه (المقال المُُفصّل)

مفهوم علاقة النبي بأصحابه (المقال المُفصّل)


مازلنا نسير في سلسلة مقالاتنا في مفاهيم قراءة قصة الرسول عليه الصلاة والسلام. ووصلنا للمفهوم الثاني في سلسلة المفاهيم، وهو:


المفهوم الثاني: علاقة الرسول بأصحابه
علاقة الرسول بأصحابه هي أحد المحاور المهمة التي نحتاج لفهمها بشكل عميق لأنَّ كثير من الخلال في مفاهيمنا الدينية يرجع في الأساس إلى حقيقة أننا لا نرى علاقة الرسول بأصحابه أو بكل من عاصره وعاشره، لا نراها بشكل صحيح. فنبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام هو بالنسبة لنا نحن الرسول الذي حمل رسالة القرآن. وهذا صحيح بالنسبة لنا كوننا لم نعاصره أو نعاشره عليه السلام، ولا نراه ولا نتعامل مع أي شيء يخص رسولنا الكريم إلا من خلال مفهوم الرسالة والوحي. 
لكنَّ هذا المنظور للرسول غير صحيح بالنسبة لمن عاصر نبيَّنا وعاش معه. فهو كان يمارس عدة أدوار أخرى غير كونه رسول خصوصاً بعد أن هاجر هو ومن آمن به من مكة للمدينة هرباً من بطش قريش وقسوتها، وكوَّنوا دولة هناك. فبعد الهجرة أخذت قصة الإسلام أبعاداً جديدة ولم يعد سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رسول يحمل رسالة من الله عز وجل فقط، بل صار أيضاً قائداً سياسياً للمدينة والتي لم يكن يسكنها من أسلم معه، وإنما فئات أخرى ليس أقلهم اليهود. 


وما يبيِّن أنَّ دور النبي في مرحلة ما بعد الهجرة لم يقتصر على تبليغ الرسالة، هو حقيقة أنه صار قائداً سياسياً للمدينة المنورة بكل ما فيها من أطياف سواء مسلمين أو غير مسلمين. وهو الأمر التي ترتب عليه تحوله لقائد عسكري أيضاً بعد أن بدأت قريش الحرب على المدينة وسكانها. فالمدينة المنورة صارت في حكم دولة لها دستور يحكم العلاقة بين مكونات تلك الدولة. هذا الدستور يتمثل في وثيقة المدينة الشهيرة، والتي لم تكن خاصة بالمسلمين، وإنما بكل مواطني تلك الدولة، والتي هي جميع سكان المدينة.


ولم يتوقف الأمر عند حد أن أصبح للرسول دور القيادة السياسية والعسكرية فحسب، بل صار القاضي الذي يحكم بين الناس ليس فقط لكونه حاكماً في المدينة، وإنما أيضاً لأنَّه أحكم من فيها. أي أنَّه صار الرسول والقائد السياسي والقائد العسكري والقاضي الذي يحتكم إليه الخصوم كما حصل في لجوء أهل الكتاب في المدينة للحكم بينهم. 
عندما جاءه أهل الكتاب ليحكم بينهم كما ترون في قوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)  وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). وهنا بكل وضوح فقد جاءه المتخاصمون من أهل الكتاب ليس بصفته رسول يحمل رسالة الله عز وجلَّ أو لأنَّه يتلقى الوحي من السماء، فهُم لا يؤمنون به ولا برسالته، لكنَّهم جاءوه لأنه قاضي المدينة وأحكم حكمائها صلى الله عليه وسلم. جاءوه بصفته القائد السياسي لدولة المدينة. أي أنَّ الحكم الذي جاءوا يطلبونه منه لم يكن بالنسبة لهم حكم الله عز وجل، وإنما حكم قاضي المدينة وحاكمها.


ولا ننسى بطبيعة الحال أنَّه كان يمثل لشريحة أخرى في المدينة أكثر من كل ما سبق، فهو كان لبعض أهل المدينة الأب، والزوج، وابن العم، والقريب، والجار، والصديق. كان في بيته بين زوجاته زوج  وليس رسول، وهو الأمر الذي نراه بكل وضوح في سورة التحريم في قوله تعالى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). وحتى أصحابه كانوا يتعاملون معه على أنه صديق ورفيق، ولذا تجاوزا الحدود معه في بعض الأحيان لدرجة أن ينزل قرآن من السماء ليذكرهم وينبههم على ألَّا ينسوا أنه رسول يحمل رسالة الله عز وجل قبل أن يكون صديقاً لهم. ونجد هذا واضحاً صريحاً في قوله سبحانه في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).


يمكن بسهولة بقراءة القرآن بتمعن ونحن نبحث عن قصة الرسول، وكيف كانت علاقته بمن حوله ومن عاصره وعاشره، يمكن بسهولة أن نرى كل هذه الأبعاد المتنوعة للعلاقة بينه عليه السلام وبينهم، والتي تجاوزت كونه رسول يحمل رسالة. وأهمية تمييز هذه الحقيقة والانتباه لها هو أنها من ضمن ما نحتاجه وما سيساعدنا كثيراً لفهم قصة الرسول صلى الله عليه و سلم سواء ما ورد منها في القرآن أو ما ورد منها في روايات كتب الحديث أو كتب السيرة. فأحد أكبر الأخطاء التي نقع فيها هي أننا نقرأ قصة الرسول في القرآن في الروايات، ونفسِّرها ونفهمها على أساس واحد فقط، وهو أنَّ محمد بن عبد الله عليه السلام رسول يحمل رسالة، بينما هو لمن عاصره أكثر من ذلك. وربما نحن متأثرون بكون النبي ليس أباً لأحدنا، ولا ابن عم لأي منَّا ولم نعاصره كي يكون لنا كقائد سياسي أو عسكري أو قاضي، وبالتالي عندما نتعامل مع قصته ونحاول فهمها، فإننا نفسر كل أفعاله وأقواله على أنها أفعال وأقوال رسول لا ينطق إلا وحياً، ولا يحرك ساكناً إلا بوحي. وهو الأمر الغير صحيح بالمطلق. فالرسول كان بشراً ولم يكن آلة لا تتفاعل مع محيطها وليس لها مشاعر ولا تتأثر بما يحصل حولها. لم يكن رجل آلي يحتل جبريل عليه السلام لسانه فلا ينطق إلا وحي السماء كما يعتقد البعض.
وقد خصصنا مقالات كاملة لمناقشة الفكرة المتوارثة الخاطئة التي تقول أنَّ كل ما ينطق به النبي وحي. هذا أمر عارٍ عن الصحة تماماً بنص القرآن وبالمنطق البسيط. ولمن أراد أن يرى الأدلة على بطلان فكرة أنَّ كل ما نطق به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحياً من الله، من أراد الإطِّلاع على المزيد بخصوص هذا الأمر، فالرابط التالي يحوي مقالاً بالخصوص فيه الكثير من الأدلة التي تبطل هذا الزعم المتوارث.


لقد كان الرسول بشراً يجتهد ويخطأ في غير الرسالة. ففي وحي القرآن والذي هو الرسالة هو معصومٌ عن الخطأ، ولكنَّه ليس معصوم فيما عدا الرسالة، وارتكب عليه الصلاة والسلام بعض الأخطاء في غير الوحي من تعامله مع الناس، وحتى في حكمه بينهم وأمره كقائد سياسي وعسكري. لا أريد أن أسرد كل الآيات التي نزلت لتصحح له بعض تلك الأخطاء كونه بشر يخطأ ويصيب في تعامله مع الآخرين في غير تبليغ الوحي القرآني. ومنها على سبيل المثال لا الحصر
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)
وهنا يجب التنبيه لمن يحاولون حصر خطأ النبي في عملية لعبوس في وده أعمى لم يرى عبوسه، يجب التنبيه أنَّ الخطأ لم يكن العبوس فقط، وإنما التولي والإعراض عن هذا الأعمى. فقد قال ربنا جل في علاه .... عبس ... و .... (((تولَّى))) ..... تولى هنا ليست حشو كلام حاش لله سبحانه، وإنما كلمة تحمل معنى مهم أراد الله سبحانه أن نعرفه. وبالتالي تولَّي النبي عن الأعمى كان هو الخطأ الأكبر من العبوس، والذي حاول كثير من التراثيين الذين يسعون لتقديس مقام النبي بإخفائه بالتركيز على عملية العبوس فقط ولفت الانتباه عن التولِّي.

ومثال آخر في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فلا أعتقد أنَّ هناك عاقل يفهم اللغة العربية ينكر أنَّ النبي قد ارتكب خطئاً بتحريم أشياء حلال على نفسه وهو ما جعل الله ينزل وحياً من السماء لمعاتبة النبي على هذا الأمر.

ومن الروايات يمكن أن نجلب قصة يوم بدر، وقصة نزول الجيش التي اقترح فيها النبي كقائد عسكري مكان نزول الجيش، ولمَّا استدرك عليه أحد أصحابه عارضاً فكرة أفضل، ترك النبي عليه السلام رأيه وذهب لرأي صاحبه، ونزل أمام آبار بدر لأنَّ فكرة صاحبه كانت أفضل من فكرته عليه السلام. ولدينا أيضاً قصة تلقيح النخل التي أشار عليهم فيها برأي غير صحيح ففسد معه النخل. فهو صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ في غير الوحي القرآني، وهو الأمر الذي لا ينكره إلا من عطل عقله، وأصم أذنه عن كل ما في القرآن والروايات من قصص لا جدال ولا شك فيها، والتي كلها أثبتت وقوع النبي في أخطاء البشر عندما يجتهدون ويُخطئون.

إنَّ إنكار وقوع النبي في أخطاء كونه بشر هو تقديس للنبي ينفيه هو عن نفسه عندما قال فيما نُسب له عليه السلام بالقول (كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون). فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم، وليس ملكاً نزل من السماء، وهو نفسه يقول (حسب ما يُظن أنه قاله)، يقول أنه يُخطئ. فلماذا يصر البعض على تقديس النبي بنفي صفة البشرية عنه. القول بأنَّ النبي لا يُخطئ هو نزع لصفة البشرية عنه عليه السلام وهو ما يخالف لكثير من آيات القرآن التي تؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر.

المهم الآن بالنسبة لموضوعنا اليوم بخصوص علاقة النبي بمن عاصره وعاشره، هو أن نعرف أنَّه كان عليه السلام يمثل لهم أشياء أخرى غير كونه رسول من الله يحمل رسالة لهم، لأنَّ الله بعث لهم بشر مثلهم ولم يبعث لهم ملك من ملائكة السماء. إنَّ فِهمُ الأبعاد المتنوعة لهذه العلاقة سيساعدنا بشكل كبير على تفسير كل ما ورد من قصة الرسول في القرآن وفي الروايات بشكل أفضل. فتجاهل حقيقة أنه كان بشراً رسولاً هو ما أوقعنا في الكثير من الأخطاء عند محاولة فهم بعض آيات القرآن أو بعض القصص التي وردت في الروايات. و لكي نبيِّن جزء من هذه الأخطاء, دعونا نأخذ المثال التالي و الذي ورد في أحد الروايات المنسوبة للرسول:
فقد ورد في كتاب صحيح مسلم عن ابن عمر: " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ))
هذه الرواية يستخدمها كثير من المسلمين للتحريم والقول على الله بغير الحق. وبطبيعة الحال نحن ناقشنا حقيقة أنَّ الروايات ظنيَّة والسواد الأعظم منها آحاد؛ وبالتالي لا تصلح للتحريم والتحليل، لأنَّ الحلال والحرام عليه حساب وثواب وعقاب، والله سبحانه عدل لا يظلم ولا يحاسب على الأمور الظنية. ومع هذا سنفترض أنَّ النبي قال هذا بالفعل، وهنا سنتمكن من رؤية الزاوية التي أقصدها وهي أنَّ سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فقط رسول، وإنما حاكم سياسي وقائد عسكري والقاضي الذي يقضي بين الناس. وعندما يُصدر هو نفسه حكماً يقيد فيه سفر المرأة، فهذا من باب أنه حاكم له سلطة إصدار الأحكام.


ولتقريب الأمر أكثر، فنحن اليوم نعيش في ظل جائحة فيروس كورونا التي اجتاحت العالم، والذي استدعى أن يقوم حكام الدول أن يصدروا أحكاماً استثنائية تقيد حركة الناس وحريتهم حفاظاً على سلامة الناس وحماية للأرواح. فصار الرجال والنساء ممنوعين من السفر وليس النساء فقط. وكلنا تفهَّم هذا الأمر واستجاب له. وبالمثل فإنَّ سفر المرأة منفردة قديماً دون أن يكون معها رجل أو رجال يحمونها، فإنها ستكون معرضة لشتى أنواع الأذى الذي قد يصل للقتل أو السبي. فكان من الممكن أن يتم فِهم هذه الرواية وتفسيرها على أنها أمر حاكم سياسي وليس أمر رسول يبلغ رسالة. سيكون هناك فرق كبير جداً بين الأمرين.
فمن نظر للرواية من زاوية أنَّ القائل رسول مبلغ لرسالة فهمها على أنها أمر سماوي وتحريم أبدي أزلي لسفر المرأة بدون رجال، بينما هناك من نظر للأمر على أنَّه صادر من الحاكم السياسي للمدينة المنورة؛ وبالتالي لم يعتبر أنَّ ما قاله النبي هنا حكماً سماوياً وحراماً وحلالاً. هناك فرق بين النظرتين. ولكن بطبيعة الحال، فإنَّ أغلب من نظر لقول النبي على أنَّ قوله هنا هو قول رسول يبلغ رسالة، إنما فعل هذا ليس لوجود قرينة تثبت بأنَّ هذا أمر سماوي، وإنما فعَل هذا لأنَّ هذا القسم من الناس لا يرون النبي إلا رسول حامل رسالة السماء، وهو الأمر غير الصحيح بالمطلق. فقد أثبتنا في مناسبات عدة بأن نبينا محمد عليه السلام كان يجتهد اجتهاد البشر فيصيب ويخطئ. والأهم، هو أنَّ الحرام والحلال الذي لا أصل له في القرآن، لا يمكن إثباته بالروايات الآحاد الظنية لأنَّ الحلال والحرام لا يؤخذان بالظن لأنَّ عليهما حساب. والله عادل لا يحاسب الناس بالأمور الظنية التي هم غير متيقنين منها مثل اليقين بالقرآن.


ولكي لا تشطح مخيِّلات البعض بعيداً، فإنَّ الأمر ليس أصلاً من أصول الدين وهو أمر مختلف عليه ولا يوجد أي إجماع على الإطلاق بالقول بأنَّ سفر المرأة منفردة حرام. أي أنني لم اخترع شيئاً من عندي ولم آتي بجديد عندما اعتبرت أنَّ قول النبي في هذه الرواية لا يعني حكماً شرعياً لتحريم سفر المرأة منفردة. كثير من العلماء والفقهاء يقولون ما أقول.


الذي نستنتجه من هذا المثال هو حقيقة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول شيء لأصحابه، فلا يعني هذا أنَّه يبلغهم وحي من السماء. فقد يكون يحدثهم ويأمرهم ويصدر لهم الأحكام بصفته الحاكم السياسي الذي ينظم قوانين الدولة، أو يقضي بينهم بحكمٍ كقاضي قضاة الدولة و قد يأمرهم بأمر عسكري اجتهاداً من عنده. 
الخلاصة هي أنَّ فهم قصة النبي يتطلب منا أن نتذكر بأنَّ علاقته بمن حوله لم تكن علاقة رسول مبلّغ بشكل مطلق وحصري، وإنما كانت لها أبعاد كثيرة أخرى هي ما نحتاج للتنقب عنها بين ثنايا القصة لنفصل بين ما هو سماوي وبين ما هو بشري.


وبهذا نكون قد وصلنا لخاتمة المقال. نسأل الله العلي القدير للجميع #السعادة والقبول 

مشوارنا مستمر بإذن الله، فتابعونا.

مفهوم علاقة الرسول بأصحابه (المقال المختصر)

مفهوم علاقة الرسول بأصحابِه (المقال المُختصَر)
قبل البداية أستسمحكم عذراً على عدم تمكنِّي من النشر بنفس الوتيرة التي كنت ألتزم بها في السابق؛ بسبب أنني بدأت في إطلاق برنامج اليوتيوب كما وعدت الجميع. من الصعب أن أسير بنفس الوتيرة مع دخولي على وسيلة تواصل جديدة، وهي التواصل المرئي.


عموماً مازلنا نسير في سلسلة مقالاتنا في مفاهيم قراءة قصة الرسول عليه الصلاة والسلام. ووصلنا للمفهوم الثاني في سلسلة المفاهيم، وهو:

المفهوم الثاني: علاقة الرسول بأصحابه
علاقة الرسول بأصحابه هي أحد المحاور المهمة التي نحتاج لفهمها بشكل عميق لأنَّ كثير من الخلال في مفاهيمنا الدينية يرجع في الأساس إلى حقيقة أننا لا نرى علاقة الرسول بأصحابه أو بكل من عاصره وعاشره، لا نراها بشكل صحيح. فنبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام هو بالنسبة لنا نحن الرسول الذي حمل رسالة القرآن. وهذا صحيح بالنسبة لنا كوننا لم نعاصره أو نعاشره عليه السلام، ولا نراه ولا نتعامل مع أي شيء يخص رسولنا الكريم إلا من خلال مفهوم الرسالة والوحي. 
لكنَّ هذا المنظور للرسول غير صحيح بالنسبة لمن عاصر نبيَّنا وعاش معه. فهو كان يمارس عدة أدوار أخرى غير كونه رسول خصوصاً بعد أن هاجر هو ومن آمن به من مكة للمدينة هرباً من بطش قريش وقسوتها، وكوَّنوا دولة هناك. فبعد الهجرة أخذت قصة الإسلام أبعاداً جديدة ولم يعد سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رسول يحمل رسالة من الله عز وجل فقط، بل صار أيضاً قائداً سياسياً للمدينة والتي لم يكن يسكنها من أسلم معه، وإنما فئات أخرى ليس أقلهم اليهود. 


وما يبيِّن أنَّ دور النبي في مرحلة ما بعد الهجرة لم يقتصر على تبليغ الرسالة، هو حقيقة أنه صار قائداً سياسياً للمدينة المنورة بكل ما فيها من أطياف سواء مسلمين أو غير مسلمين. وهو الأمر التي ترتب عليه تحوله لقائد عسكري أيضاً بعد أن بدأت قريش الحرب على المدينة وسكانها. فالمدينة المنورة صارت في حكم دولة لها دستور يحكم العلاقة بين مكونات تلك الدولة. هذا الدستور يتمثل في وثيقة المدينة الشهيرة، والتي لم تكن خاصة بالمسلمين، وإنما بكل مواطني تلك الدولة، والتي هي جميع سكان المدينة.


ولم يتوقف الأمر عند حد أن أصبح للرسول دور القيادة السياسية والعسكرية فحسب، بل صار القاضي الذي يحكم بين الناس ليس فقط لكونه حاكماً في المدينة، وإنما أيضاً لأنَّه أحكم من فيها. أي أنَّه صار الرسول والقائد السياسي والقائد العسكري والقاضي الذي يحتكم إليه الخصوم كما حصل في لجوء أهل الكتاب في المدينة للحكم بينهم. 
عندما جاءه أهل الكتاب ليحكم بينهم كما ترون في قوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)  وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). وهنا بكل وضوح فقد جاءه المتخاصمون من أهل الكتاب ليس بصفته رسول يحمل رسالة الله عز وجلَّ أو لأنَّه يتلقى الوحي من السماء، فهُم لا يؤمنون به ولا برسالته، لكنَّهم جاءوه لأنه قاضي المدينة وأحكم حكمائها صلى الله عليه وسلم. جاءوه بصفته القائد السياسي لدولة المدينة. أي أنَّ الحكم الذي جاءوا يطلبونه منه لم يكن بالنسبة لهم حكم الله عز وجل، وإنما حكم قاضي المدينة.


ولا ننسى بطبيعة الحال أنَّه كان يمثل لشريحة أخرى في المدينة أكثر من كل ما سبق، فهو كان لبعض أهل المدينة الأب، والزوج، وابن العم، والقريب، والجار، والصديق. كان في بيته بين زوجاته زوج  وليس رسول، وهو الأمر الذي نراه بكل وضوح في سورة التحريم في قوله تعالى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). وحتى أصحابه كانوا يتعاملون معه على أنه صديق ورفيق، ولذا تجاوزا الحدود معه في بعض الأحيان لدرجة أن ينزل قرآن من السماء ليذكرهم وينبههم على ألَّا ينسوا أنه رسول يحمل رسالة الله عز وجل قبل أن يكون صديقاً لهم. ونجد هذا واضحاً صريحاً في قوله سبحانه في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).


يمكن بسهولة بقراءة القرآن بتمعن ونحن نبحث عن قصة الرسول، وكيف كانت علاقته بمن حوله ومن عاصره وعاشره، يمكن بسهولة أن نرى كل هذه الأبعاد المتنوعة للعلاقة بينه عليه السلام وبينهم، والتي تجاوزت كونه رسول يحمل رسالة. وأهمية تمييز هذه الحقيقة والانتباه لها هو أنها من ضمن ما نحتاجه وما سيساعدنا كثيراً لفهم قصة الرسول صلى الله عليه و سلم سواء ما ورد منها في القرآن أو ما ورد منها في روايات كتب الحديث أو كتب السيرة. فأحد أكبر الأخطاء التي نقع فيها هي أننا نقرأ قصة الرسول في القرآن في الروايات، ونفسِّرها ونفهمها على أساس واحد فقط، وهو أنَّ محمد بن عبد الله عليه السلام رسول يحمل رسالة، بينما هو لمن عاصره أكثر من ذلك. وربما نحن متأثرون بكون النبي ليس أباً لأحدنا، ولا ابن عم لأي منَّا ولم نعاصره كي يكون لنا كقائد سياسي أو عسكري أو قاضي، وبالتالي عندما نتعامل مع قصته ونحاول فهمها، فإننا نفسر كل أفعاله وأقواله على أنها أفعال وأقوال رسول لا ينطق إلا وحياً، ولا يحرك ساكناً إلا بوحي. وهو الأمر الغير صحيح بالمطلق. فالرسول كان بشراً ولم يكن آلة لا تتفاعل مع محيطها وليس لها مشاعر ولا تتأثر بما يحصل حولها. لم يكن رجل آلي يحتل جبريل عليه السلام لسانه فلا ينطق إلا وحي السماء كما يعتقد البعض.


لقد كان الرسول بشراً يجتهد ويخطأ في غير الرسالة. ففي وحي القرآن والذي هو الرسالة هو معصومٌ عن الخطأ، ولكنَّه ليس معصوم فيما عدا الرسالة، وارتكب عليه الصلاة والسلام بعض الأخطاء في غير الوحي من تعامله مع الناس، وحتى في حكمه بينهم وأمره كقائد سياسي وعسكري. 


لا أريد أن أسرد كل الآيات التي نزلت لتصحح له بعض تلك الأخطاء كونه بشر يخطأ ويصيب في تعامله مع الآخرين في غير تبليغ الوحي القرآني. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
ومن الروايات يمكن أن نجلب قصة يوم بدر، وقصة نزول الجيش التي اقترح فيها النبي كقائد عسكري مكان نزول الجيش، ولمَّا استدرك عليه أحد أصحابه عارضاً فكرة أفضل، ترك النبي عليه السلام رأيه وذهب لرأي صاحبه، ونزل أمام آبار بدر لأنَّ فكرة صاحبه كانت أفضل من فكرته عليه السلام. ولدينا أيضاً قصة تلقيح النخل التي أشار عليهم فيها برأي غير صحيح ففسد معه النخل. فهو صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ في غير الوحي القرآني، وهو الأمر الذي لا ينكره إلا من عطل عقله، وأصم أذنه عن كل ما في القرآن والروايات من قصص لا جدال ولا شك فيها، والتي كلها أثبتت وقوع النبي في أخطاء البشر عندما يجتهدون ويُخطئون.


المهم الآن بالنسبة لموضوعنا اليوم بخصوص علاقة النبي بمن عاصره وعاشره، هو أن نعرف أنَّه كان عليه السلام يمثل لهم أشياء أخرى غير كونه رسول من الله يحمل رسالة لهم، لأنَّ الله بعث لهم بشر مثلهم ولم يبعث لهم ملك من ملائكة السماء. إنَّ فِهمُ الأبعاد المتنوعة لهذه العلاقة سيساعدنا بشكل كبير على تفسير كل ما ورد من قصة الرسول في القرآن وفي الروايات بشكل أفضل. فتجاهل حقيقة أنه كان بشراً رسولاً هو ما أوقعنا في الكثير من الأخطاء عند محاولة فهم بعض آيات القرآن أو بعض القصص التي وردت في الروايات. و لكي نبيِّن جزء من هذه الأخطاء, دعونا نأخذ المثال التالي و الذي ورد في أحد الروايات المنسوبة للرسول:
فقد ورد في كتاب صحيح مسلم عن ابن عمر: " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ))


هذه الرواية يستخدمها كثير من المسلمين للتحريم والقول على الله بغير الحق. وبطبيعة الحال نحن ناقشنا حقيقة أنَّ الروايات ظنيَّة والسواد الأعظم منها آحاد؛ وبالتالي لا تصلح للتحريم والتحليل، لأنَّ الحلال والحرام عليه حساب وثواب وعقاب، والله سبحانه عدل لا يظلم ولا يحاسب على الأمور الظنية. ومع هذا سنفترض أنَّ النبي قال هذا بالفعل، وهنا سنتمكن من رؤية الزاوية التي أقصدها وهي أنَّ سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فقط رسول، وإنما حاكم سياسي وقائد عسكري والقاضي الذي يقضي بين الناس. وعندما يُصدر هو نفسه حكماً يقيد فيه سفر المرأة، فهذا من باب أنه حاكم له سلطة إصدار الأحكام.
ولتقريب الأمر أكثر، فنحن اليوم نعيش في ظل جائحة فيروس كورونا التي اجتاحت العالم، والذي استدعى أن يقوم حكام الدول أن يصدروا أحكاماً استثنائية تقيد حركة الناس وحريتهم حفاظاً على سلامة الناس وحماية للأرواح. فصار الرجال والنساء ممنوعين من السفر وليس النساء فقط. وكلنا تفهَّم هذا الأمر واستجاب له. وبالمثل فإنَّ سفر المرأة منفردة قديماً دون أن يكون معها رجل أو رجال يحمونها، فإنها ستكون معرضة لشتى أنواع الأذى الذي قد يصل للقتل أو السبي. فكان من الممكن أن يتم فِهم هذه الرواية وتفسيرها على أنها أمر حاكم سياسي وليس أمر رسول يبلغ رسالة. سيكون هناك فرق كبير جداً بين الأمرين.
فمن نظر للرواية من زاوية أنَّ القائل رسول مبلغ لرسالة فهمها على أنها أمر سماوي وتحريم أبدي أزلي لسفر المرأة بدون رجال، بينما هناك من نظر للأمر على أنَّه صادر من الحاكم السياسي للمدينة المنورة؛ وبالتالي لم يعتبر أنَّ ما قاله النبي هنا حكماً سماوياً وحراماً وحلالاً. هناك فرق بين النظرتين. ولكن بطبيعة الحال، فإنَّ أغلب من نظر لقول النبي على أنَّ قوله هنا هو قول رسول يبلغ رسالة، إنما فعل هذا ليس لوجود قرينة تثبت بأنَّ هذا أمر سماوي، وإنما فعَل هذا لأنَّ هذا القسم من الناس لا يرون النبي إلا رسول حامل رسالة السماء، وهو الأمر غير الصحيح بالمطلق. فقد أثبتنا في مناسبات عدة بأن نبينا محمد عليه السلام كان يجتهد اجتهاد البشر فيصيب ويخطئ. والأهم، هو أنَّ الحرام والحلال الذي لا أصل له في القرآن، لا يمكن إثباته بالروايات الآحاد الظنية لأنَّ الحلال والحرام لا يؤخذان بالظن لأنَّ عليهما حساب. والله عادل لا يحاسب الناس بالأمور الظنية التي هم غير متيقنين منها مثل اليقين بالقرآن.

ولكي لا تشطح مخيِّلات البعض بعيداً، فإنَّ الأمر ليس أصلاً من أصول الدين وهو أمر مختلف عليه ولا يوجد أي إجماع على الإطلاق بالقول بأنَّ سفر المرأة منفردة حرام. أي أنني لم اخترع شيئاً من عندي ولم آتي بجديد عندما اعتبرت أنَّ قول النبي في هذه الرواية لا يعني حكماً شرعياً لتحريم سفر المرأة منفردة. كثير من العلماء والفقهاء يقولون ما أقول.

الذي نستنتجه من هذا المثال هو حقيقة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول شيء لأصحابه، فلا يعني هذا أنَّه يبلغهم وحي من السماء. فقد يكون يحدثهم ويأمرهم ويصدر لهم الأحكام بصفته الحاكم السياسي الذي ينظم قوانين الدولة، أو يقضي بينهم بحكمٍ كقاضي قضاة الدولة و قد يأمرهم بأمر عسكري اجتهاداً من عنده. 


وبهذا نختم مقالنا المختصر بالخصوص. نسأل الله لكم السلامة ودوام #السعادة التي كل مشوارنا هو لبلوغ ديمومتها.. فتابعونا.

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...