قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (المقال المًفصّل)

قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (المقال المفصَّل)

في مقالنا المُفصَّل اليوم سوف نتوسع في شرح القاعدة الرابعة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات.  لهذا أنصح من قرأ المقال المختصر ولديه رغبة في التوسع بأن يقرا هذا المقال لأنَّ فيه توسع كبير ومزيد من الأمثلة والشرح المفصَّل.

القاعدة تقول:

القاعدة الرابعة: تحديد نوع الرواية من ناحية التبليغ
وكما أكدت على أهمية هذه القاعدة في المقال المختصر، فإنَّ أكبر جانب للتوسع في المقال سيطال هذا التأكيد بتأكيدات أخرى على الأهمية القصوى لهذه القاعدة. بصراحة، يمكن لهذه القاعدة فقط أن تصحح الكثير من المفاهيم المغلوطة حول الروايات وطريقة التعامل معها. فكما تعلمون، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو حامل لرسالة ومكلف بتبليغها. "التبليغ" هي الكلمة الفاصلة والشاملة والكاملة للتعبير عن دور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 
وقد جاء هذا الأمر بشكل واضح وصريح ومباشر ومكرر للتأكيد على أن دور الرسول الأساسي هو "التبليغ". 

والتالي هو بعض تلك الآيات التي تؤكد هذه الحقيقة:
(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)
(وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)

هذه فقط عينة بسيطة من كتاب الله تبيِّن كم كان الله حريص على تذكير نبيه وتذكير الناس بأنَّ الرسول مطالب بالتبليغ وأن مهمته الأولى والأخيرة هي التبليغ. والتبليغ له شواهده وشروطه وطريقته وأدواته. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن يحدث حوار بين النبي عليه السلام والسيدة عائشة في دارهما والباب مغلق عليهما ثم يحصل بعد سنين أن تحدثت السيدة عائشة مع أحدهم حول ما دار بينها وبين رسول الله من حوار، ثم يأتي من يدون هذه الحوار ويستخرج لنا منه دين وفقه وحلال وحرام! لا يمكن هذا ولا يُعقل أن يكون هذا الحوار الفردي خلف الأبواب المغلقة دين.

 دين الله يقوم على قاعدة التبليغ والتعميم والتبييّن الذي لا يكون إلا وسط الجموع وفي العلن وليس خلف الأبواب المغلقة في همسات بين الرسول وزوجته. ولتوضيح الأمر أكثر إليكم هذه الرواية التي وردت في البخاري ومسلم وغيرها من كتب الروايات:

عن عائشة رضي الله عنها قالت(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضت يأمرني أن أتزر ثم يباشرني)

أريدكم أن تركزوا معي الآن، السيدة عائشة تروي أشياء خاصة حصلت بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف باب مغلق. تخيلوا أنَّ رواية كهذه يأتي الفقهاء ويستخرجوا منها دين وحلال وحرام! قد يعتقد البعض أنَّ هذا أمر طبيعي كون أفعال النبي هي "ترجمة للدين" وشرح له. لكن نسي هؤلاء أنَّ النبي لما كان خلف باب مغلق مع زوجته على فراشهما لم يكن يبيّن الدين ولم يوصي عائشة بأن تحكي ما حصل  لا هو الذي كان يتوقع أو يعلم أنها ستحكي هذا الأمر للناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. فأي تبييّن أو ترجمة أو شرح يتكلم عنه هؤلاء!

لو أراد النبي أن يبيّن ويشرح و "يبلِّغ" أحكام معاشرة الرجل وزوجته أثناء فترة الحيض، وأراد تبليغ ما هو حلال وحرام فيها، مما يجب على أمته أن تعرفه، فسوف يقوم بفعل هذا بشكل يليق بمقامه كرسول مبلّغ لرسالة الله جل في علاه. أما أن يحصل الأمر خلف أبواب مغلقة و تحدث عشرات المصادفات بداية بمصادفة أن حكت السيدة عائشة القصة لأحدهم, مروراً بمصادفة أن من سمعها حفظها، وليس انتهاءً بمصادفة أنَّ سلسلة من الرواة حفظوها لقرون حتى وقعت في كتب الرواة الذين دونوها بعد 200 سنة من حدوثها! بالله عليكم هل يمكن أن يكون هذا أسلوب تبليغ يليق بمقام رسولنا المُبَلّْغ الأمين؟

تخيلوا معي على سبيل المثال هذه الرواية الخيالية التي اخترعتها من رأسي، لو أراد النبي أن يُبلّغ أمته بأن الله يقبل منهم (يُحِلُ لهم) أن يستمتعوا بزوجاتهم أثناء الحيض دون المجامعة، فإن كان الأمر كذلك، فإنه كرسول مبلّغ سيجمع الناس أو يأتي وهم مجتمعون ويخطب فيهم وسنجد سيل من روايات جموع عن جموع يروي كلهم رواية تقول:

عن فلان عن علًان عن أفنان ابن جعلان أنه قال: أمر رسول الله بلال بالأذان لجمع الناس حتى اجتمعوا فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن الله تعالى أمركم في كتابه بأن تجتنبوا النساء في الحيض فقال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ), ألا إنه أمرني أن أبلّغكم أنه يحل لكم أن تستمتعوا بهن في الحيض إلا أن تجامعوا. فليبلّغ عني من حضر من لم يحضر. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد) ثم أمر رسول الله زيداً وعلياً وعروة بتدوين ما قال)

لو جاءت رواية مثل التي اخترعتها أنا هنا أعلاه، لو جاءت في كتب الحديث, فهنا واضح من ملابسات الرواية ومسرح أحداثها أنها كانت حالة تبليغ واضحة. ولهذا يمكن بكل بساطة أن نفهم أنها دين ويمكن أن نستخرج منها حلال وحرام. 

لكن أن نأتي لرواية عن شيء حصل خلف الأبواب المغلقة ثم نعتبره دين ونستخرج منه حلال وحرام، فهذا هو التقول على الله وتحريف الدين في أوضح صوره.

ولتبسيط الأمر، فليتخيل كلٌ منكم أنه طُلب منه أن يبلّغ الناس بأن قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ)، تخيلوا أنه طُلب منه أن يبيِّن أنَّ هذه الآية لا تمنع الرجل من أن يستمتع بجسد زوجته، فهل سيذهب كل منكم لزوجته وهي حائض ويستمتع بجسدها ثم يعتمد على أنها قد تحكي في المستقبل أنه قد استمتع بجسدها وهي حائض فيبلغ هذا للناس، أم أنه سيخرج على وسائل الإعلام وينشر في حساباته على وسائل التواصل الإجتماعي وإن استطاع جمع الناس، جمعهم وأخبرهم عن ما يحل لهم في الحيض ويطلب من الحاضر أن يُعلِم الغائب. بالله عليكم هل يُعقل أن يكون أحدنا أحرص على التبليغ من رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم.

خلاصة المقدمة هي أنه عندما تصلنا رواية، فإنه قبل أن نعاملها بتقديس ونحولها إلى دين ونستخرج منها الحلال والحرام, فإنه حسب القاعدة الرابعة، التي نحن بصدد شرحها، فإنه يجب فحص مسرح أحداث الرواية لنعرف هل إن ما ورد فيها جاء ضمن حالة تبليغ يُبلّغ فها الرسول ديناً وحلالاً وحراماً، أما أنها قصة عابرة لا يوجد للتبليغ فيها أي أثر. 

إنَّ تجاهل هذا الأمر قد يقود إلى تحريف الدين بالزيادة والنقصان والتقول على الله والوقوع تحت طائلة قول ربنا جل في علاه (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ). هذه الآية وحدها تكفي لجعلنا نعيد التفكير في طريقة تعاملنا مع الروايات التي صارت عند البعض أقدس من القرآن، بل وحتى تلغي آياته.

على العموم, وكما بيَّنا، فإن هذه القاعدة تعتبر مهمة جداً جداً جداً لأنها تقدم مفهوم مهم جداً جداً جداً تم إغفاله كثيراً في كل مدارس الفقه والشريعة التقليدية التي لا تقدم تدبراً وإنما اجترار وتقليد. للأسف إغفال هذه القاعدة عند التعامل مع الروايات يعتبر من أحد أهم الأسباب في انحراف فهم الدين. فالروايات هي كما يوحي اسمها، ما هي إلا أحداث مرت وقصص حصلت في حضور الرواة الذين قاموا برواية القصة أو الحادثة لغيرهم. ومن خلال سلسلة من الرواة يعنعن بعضهم عن بعض وصلت الرواية لأحد جامعي الروايات (مثل مسلم و البخاري) واستقرت في مدوناتهم التي أصبحت في متناول الجميع فيما بعد. 

المشكلة تكمن في أنَّ الناس من بعدهم  قاموا بمعاملة كل الروايات على أنها دين أو جزء من الدين في حين أن الغالبية الساحقة العظمى من الروايات لا يمكن اعتبارها من الدين لأسباب وجيهة ومنطقية جداً كما سنوضح في الآتي:

## النبي صلى الله عليه وسلم بشر مثل باقي البشر وليس آلة يتحكم فيها جبريل عليه السلام تنطق مثل الروبوت ما يملى عليها. أي أنه كان يتلو الوحي (القرآن) لأصحابه عندما يأتيه الوحي لينجز مهمة التبليغ الموكلة إليه وفيما عدا ذلك فهو يمزح مع أصحابه ويغازل زوجاته ويسأل عن أحوال من يتكلم معه. 

و لأنه بشر، فهو يسير في الطرقات ويدخل الأسواق ويشتري ويتكلم مع العامة وتمر به حالات وحكايات مثله مثل باقي البشر ولهذا كرر الله جل في علاه هذه الحقيقة في القرآن مثل قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). 

وفوق كونه بشر يتكلم في عموم ما يتكلم فيه البشر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قائداً سياسياً وعسكرياً يحمل مهام قيادية تشمل فيما تشمل الأمر والنهي عن فعل الأشياء فيما يخص شؤون الناس المدنية والعسكرية؛ وبالتالي تصور أن كل كلامه وحي وأمره ونهيه حلالاً وحراماً هو تصور غير صحيح. ولتوضيح الموضع أكثر سنقدم النقاط التالية:

أ) الرسول عليه السلام مكلف تكليفاً إلزامياً من الله جل في علاه بتبيلغ الوحي والرسالة للناس ولا يملك أن يختار التقصير في التبليغ حتى لو أراد أن يقصِّر. وحكمة الله وعلمه وقدرته تقتضي أنه لا يختار لتبليغ الرسالة إلا من هو أهل لها وقادر عليها، وهذا ما حدث بالفعل. فالرسول أهلٍ لحمل الأمانة، وقد بلّغ الرسالة على أكمل وجه صلى الله عليه وسلم.

ب) عدم بلوغ الرسالة التي كلّف الله رسوله بتبليغها كما ينبغي لها أن تُبلَّغ، هي إما طعن في أمانة الرسول واتهام له بالتقصير، أو طعن في قدرة الله وحكمته واتهام له بالعجز عن أن يكون قادر على ضمان بلوغ رسالته أو اختيار الرسول المناسب القادر على حمل أمانة التبليغ، سبحانه وتعالى عن هذا علواً كبيراً.
ج) الغالبية العظمى الساحقة الطاغية من الروايات هي أحداث عابرة اشترك في أحداثها بضعة أنفار منهم راوي الرواية. هذا علاوة عن أنَّ الغالبية العظمى الساحقة من الروايات هي روايات آحاد أي رواها أفراد عن أفراد ليس جموع غفيرة عن جموع غفيرة.
د) "التبليغ" كلمة واضحة وصريحة المعنى بحيث لا أظن أنه سيختلف اثنان في دلالة معناها. "تبليغ" الرسول لأمر من الدين أراد الله عز وجل أن يبلغنا يعني أن الرسول سيقوم بكل الإجراءات اللازمة للقيام بتبليغ رسالة ربه على أكمل وجه.
هـ) إجراءات التبليغ لابد وإلزاماً أن تحتوي على الأقل واحد من الأمور الثلاث التالية أو كلها:

أولاً: جمع أكبر عدد ممكن من الناس وتبليغهم.
ثانياً: تحميل من حضر أمانة تبليغ من لم يحضر.
ثالثاً: طلب الرسول من بعض الحاضرين التوثيق الكتابي بتدوين ما قاله لهم.

أي رواية تخلوا من العناصر الثلاث أعلاه هي دليل على أنَ الرسول لا يبلغ شيء من الدين أراد الله جل في علاه أن يبلغنا. لا يمكن اعتبار محادثة دارت بين النبي مع شخص أو شخصين أو بضعة أنفار بأنه تبليغ! لا يمكن هذا! لا يُعقل أصلاً! والروايات معظمها من هذا النوع. أي أنها تروي أحداث عابرة ليس فيها أي شكل من أشكال التبليغ ولا شروطه ولا أدواته، فكيف يستخرجون منها حلال وحرام؟ يجب التوقف عن الإساءة لله جل في علاه ولرسوله عليه السلام. لو كان هناك حرام أراد الله أن نجتنبه فسوف يخبرنا به بشكل موثق محفوظ قطعي لا ظن فيه. ولا ينطبق هذا الوصف إلا على كتاب الله جل في علاه والذي هو الوحيد الذي لا ريب فيه مصداقاً لقوله تعالى (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ). أما باقي الكتب ما عدا كتاب الله، فهي كلها على بكرة أبيها كتب ظنية فيها ريب. 
كل كتب الروايات تحمل روايات ظنية في المقام الأول وهي في غالبيتها العظمى الساحقة تروي أحداث فردية وقصص خالية من أي صورة من صور وأدوات التبليغ. 

إذا حرَّم الله شيء، فسيوكل رسوله بمهمة تبليغه عن طريق الوحي القرآني ولن يترك مهمة بلوغ حرمة الشيء للناس للبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة. محمد بن عبد الله عليه السلام هو الوكيل الوحيد لتبليغ الوحي والدين والحلال والحرام من خلال قناة واحدة ووحيدة وهي كتاب الله الذي تكفل بعدله وقدرته بحفظه حتى وصلنا بطريقة قطعية الثبوت لا ريب فيها. 
ليس من العدل أن يُحرِّم الله شيء ثم يتركه للرواة كي ينقلوه بطريقة ظنية بعد قرون من زمن البعثة ثم يأتي ربنا ليحاسبنا عليه! الله جل في علاه أعظم وأعدل فلا تشوهوا صورة ربكم.

من خلال النقاط أعلاه، يتبين لنا حجم الفوضى الكبيرة التي حدثت بسبب التركيز على سند الروايات عند جمعها وإغفال جزئية أساسية فائقة الأهمية مثل دراسة مسرح الرواية وما دار فيها وما قيل فيها لنعرف هل الرواية كانت تُعَبِّر عن حالة تبليغ لأمر ديني تشريعي، أم أنها مجرد حدث عادي لا علاقة له بالدين والتشريع. 

هذا أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبها ويرتكبها معظم من يعمل في دائرة فهم الفقه والتشريع وفهم الدين والتشريع السماوي. ولتوضيح الأمر أكثر سنقدم بعض الأمثلة على روايات يتم استخدامها على أنها تشريع لحلال وحرام وتُعامَل على أنها جزء من الدين في حين أنها لا ينطبق عليها وصف التبليغ. فما لا ينطبق عليه وصف التبليغ يعني مباشرة أن الله لم يطلب من رسوله تبليغه؛ وبالتالي لن يكون هذا الأمر من الدين فضلاً عن أن يكون تشريعاً.

المثال الأول:
ورد في كتاب صحيح مسلم وغيره الرواية التالية:
عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها)
وبالنظر للرواية بتمعن وتفحص، نجد الآتي:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد ولم تُروى من جموع عن جموع
## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية)
وبالتالي يمكن بكل ثقة ووضوح القول بأنَّ النبي عليه السلام لم يكن في حالة تبليغ. وكونه لم يكن في حالة تبليغ، فهذا يعني أنَّ ما قاله لم يكن وحي أراد الله منه أن يُبلّغه لقومه. وبما أنَّ الرواية ليست مما أراد الله أن يُبلّغه رسوله لقومه, و أنها ظنية أي لا يستطيع أحد الجزم بنسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يمكن القول أنَّ هذه الرواية (إن صحت) لا تحمل أي أمر ديني أو تشريعي. ومع هذا وللأسف قام كثير من فقهاء السلف بمعاملتها على أنها تشريع وجعلوا سفر المرأة بِمَحْرَم أو بدونه أمر ديني فيه حلال وحرام وهو الأمر غير الصحيح بالمطلق. كيف يحرمون شيء مثل سفر المرأة بناءاً على رواية لا تحمل أي صيغة أو أداة من أدوات التبليغ؟

أنا هنا لا أتناول موضوع هل سفر المرأة بدون محرم حلال أو حرام، هذا ليس موضوعي. موضوعي هو أنهم كيف تجرأوا على الله و جعلوا سفر المرأة بدون محرم حرام بناءاً على رواية ظنية آحاد وردت في كتاب إنسان عادي يحمل كتابه نسبة من الريب مثل باقي كتب البشر. الأدهى هو أنَّ الرواية لا يوجد فيها أي صيغة من صيغ التبليغ! هل سيحاسب الله جل في علاه يوم القيامة المرأة التي سافرت بدون محرم على سفرها ويقول لها لماذا لم تصدقي رواية كتاب صحيح مسلم ظنية الثبوت؟! ما لكم كيف تحكمون !!!!!!!!

المثال الثاني:
ورد في البخاري الرواية التالية:
حدثنا مطرف سمعت الشعبي يحدث قال سمعت أبا جحيفة قال (سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم شيء مما ليس في القرآن وقال ابن عيينة مرة ما ليس عند الناس فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر)

وبالنظر في الرواية سنجد نفس الشيء:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد لم تُروى من جموع عن جموع
## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية).

فالرواية كما ترون هي ليست حتى من كلام النبي وإنما من كلام علي بن أبي طالب. فالرواية بكل وضوح لا تحمل أي شيء له علاقة بعملية "التبليغ"، ما يعني أنَّ الله جل في علاه لم يُرد أصلاً أن يبلّغنا هذا الكلام وبالتالي هذه الرواية لا تحمل أمر ديني أو تشريعي. ومع ذلك، وللأسف قام كثير من فقهاء السلف والخلف باستحداث أحكام في الدين بناءاً على هذه الرواية وشبيهاتها مثل إفتائهم بأن عقوبة قتل النفس العمد تختلف حسب ما إذا كان المقتول مسلماً أو غير مسلم. وكأن الرواية تقول أنَّ المسلم طالما يملك مال كافي لدفع دية من لا يحب من غير المسلمين، فما عليه إلا أن يقتله ثم يدفع الدية لأنه حسب الرواية لا يجوز قتل المسلم كعقوبة عندما يقتل غير المسلم.

وهنا أيضاً استغرب كيف لرواية آحاد ظنية دونها من دونها بعد قرون من حدوثها، كيف يعطلون بها القصاص العادل من القاتل والذي ورد في القرآن دون تفريق بين نفس مؤمنة أو غير مؤمنة؟
كيف يعطلون حكماً إلهياً صريحاً بالقصاص من القاتل بتأويلات ظنية أو روايات ظنية؟ لو أراد الله أن يعدل في قانون القصاص، فسيأمر نبيه بتبليغ هذا بشكل صريح مباشر وهو الذي سيقوم بدوره بالتبليغ بما يليق بمقام التبليغ من رسول أمين مثل نبينا صلى الله عليه وسلم. أين هي علامات وأدوات التبليغ في الرواية أو في كل الروايات الآحاد الظنية التي حملت نفس المعنى؟ 


إنَّ تعدد الظنون لا يحولها ليقين. فاليقين الذي لا ريب فيه هو كتاب الله الذي لا ريب فيه. أما باقي كتب البشر فهي ظنون مهما تكاثرت مصادرها، والظن لا يغني من الحق شيئا.

المثال الثالث:
ما ورد في كبريات كتب الحديث مثل رواية مسلم التالي فيما جاء على لسان عبد الله بن مسعود مما نسبه لرسول الله بقوله:
(لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)
و نفس الشيء سنجده هنا:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد ولم تُروى من جموع عن جموع

## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية)

وأيضاً هنا لم يرد الكلام حتى عن رسول الله بشكل مباشر، وإنما مما أدُعي أن النبي قاله. وكل علامات التبليغ مختفية بالطبع، ولكن للأسف يتم التجرؤ على الله وادعاء أنَّ اهتمام المرأة بشكلها وجمالها هو أمر محرم يؤدي إلى اللعن والطرد من رحمة الله. أي أن الرواية تقول لنا بأنَّ الله عندما قدر أن يكون في إحدى النساء قبح في الوجه، فإنه يريدها أن تُبقي على قبحها ولا تغيره لأنه تغيير لخلق الله! وبغض النظر عن عدم منطقية محتوى الرواية، إلا أنَّ الأهم عندنا هنا هو أنَّ الرواية تخلوا بالكلية من أي علامة دالة على أنَّ النبي كان مأمور بتبليغ هذا الأمر للمؤمنين، وهو الأمر الكافي لمعرفة أنَّ رواية كهذه لا يؤخذ منها دين فضلاً عن الحلال والحرام.

إذا كان النمص حراماً يحاسا الله عليه، فأين التبليغ؟ نحن البشر عندما نضع تشريع لحضر أو منع شيء ما لم يكن ممنوعاً أو محضوراً نكلف كل وسائل الإعلام بالتبليغ وننزله في الجرائد الرسمية ويُعلن عنه في القنوات الرسمية وتوضع مدة قانونية قبل أن يسري قانون المنع أو الحضر لتعطي الناس فرصة لبلوغ المنع لهم وبالتالي لا يُعذر أحد بعد المدة القانونية بالجهل بالقانون الجديد. 

كيف بالله عليكم نجعل الله ظالماً بأن يحضر ويمنع عنا أشياء سيحاسبنا عليها دون أن يبلّغنا بشكل صحيح لا ريب فيه. ولا يوجد شيء لا ريب فيه إلا القرآن. الأدهى والأمَّر هو أنَّ هذه المحرمات التي وردت في الرواية بالجملة ليست فقط مختفية من كتاب الله، بل وأيضاً كل الروايات التي وردت فيها هي روايات آحاد ظنية تخلوا كلها من أي مظهر من مظاهر التبليغ وأدواته مثل جمع الناس وتوصية تبليغ الغائبين أو طلب التدوين!

في الختام، أتصور أنه من خلال هذا المقال الموسع يمكن أن نرى أهمية القاعدة الرابعة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات. يمكنني أن أزعم بأنَّ هذه القاعدة فقط تكفي لكي تعيد الأمور لنصابها وتضع الروايات في المقام الذي يليق بها عندما نتعامل معها.

نكتفي بهذا القدر وسيكون ملتقانا بإذن الله مع المقال الثالث ضمن نفس الموضوع للتفاعل مع الأسئلة والتعليقات.

حفظكم الله من كل سوء وأنار طريقكم بالحكمة وأدام الله #السعادة في حنايا قلوبكم.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...