قاعدة التفريق بين روايات الدين و روايات التدين (المقال المُفصّل)

قاعدة التفريق بين روايات الدين وروايات التدين(المقال المُفصَّل)

مقالنا اليوم هو المقال الموسّع عن القاعدة الخامسة لمنهجية التعامل مع الروايات والتي تقول:

القاعدة الخامسة: تحديد ما إذا كانت الرواية تختص بالدين أم بالتدين
هذه القاعدة هي قاعدة توظيفية وليست قاعدة اختبارية. فنحن هنا نعتبر أننا أمام رواية مقبولة قرآنياً وعقلياً وعلمياً وقد يصح أنَّ أحداثها وما ورد فيها من كلام قد حصل بالفعل. فمشكلة الطريقة التقليدية في التعامل مع الروايات هي أنها تهتم بصحة السند أي بتقييم سلسلة الرواة ولا تمس على الأعم الأغلب متن الرواية. 

وكما بيَّنا في مناسبات سابقة أن دراسة المتن والذي هو نص وأحداث الرواية أهم بكثير من فحص سندها، حيث أن تقييم الرواية واعتبارها صحيحة أو ضعيفة بناءاً على السند فقط هو عمل غير صحيح وغير منطقي. فبعد فحص متن الرواية (أحداثها و ما ورد فيها من كلام) بعرضها على قواعدنا الثلاث الأولى من قواعد منهجية التعامل مع الروايات، يأتي بعدها مهمة توظيف الرواية التوظيف الصحيح لنعرف ما الذي يمكن أن نستفيده منها. وحسب تسلسل القواعد، فإنَّ القاعدة الرابعة هي البحث في نص الرواية ومتنها عن أي شيء يدل على أنَّ النبي كان في حالة تبليغ عامة أم لا؛ لأن الفرق بين الحالتين مهم جداً. 
فالرواية التي يثبت في متنها حالة التبليغ تحتاج منَّا أن نوظفها على أنها رواية تمس الدين وليست مجرد حادثة عابرة، بينما الرواية التي تخلو تماماً من أي مظاهر التبليغ وعلاماته، فهي بطبيعة الحال تدل على أنَّ أي شيء قاله النبي فيها ليس من الدين لأنَّ النبي مأمور بتبليغ الدين، وبالتالي فما ورد في الرواية هو حادثة يمكن توظيفها توظيف آخر غير استنباط أحكام الدين والحلال والحرام كما بيَّنا بالأمثلة في مقال القاعدة الرابعة السابق.

وهناك زاوية أخرى يمكنها المساعدة على توظيف الرواية التوظيف الصحيح. هذه الزاوية هي في التفريق بين ما هو دين وما هو تدين. هذه الزاوية هي قاعدتنا الخامسة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات والتي نتناولها اليوم بالتفصيل. ولهذا دعونا هنا نعود لمفهوم الدين والتدين والذي تناولناه في مقال سابق. ولنبدأ هنا بتوضيح ما نقصد بالدين وما نعني بالتدين:

الدين: هو المعتقدات الكلية الخاصة بطبيعة السلوك والعلاقة بين الإنسان وكل ما حوله، منها ما هو غيبي مرتبط بما وراء الطبيعة من غير المحسوس والملموس، ومنها ما هو حسي مرتبط بالموجودات المحسوسة في الطبيعة.

ويمكن تلخيص سمات الدين في النقاط التالية:

## الدين مختص بالكليات والعموميات فيما يخص علاقة الإنسان مع غيره سواء كان غيبياً غير محسوس مثل الخالق العظيم جل في علاه، أو محسوساً ملموساً من إنس وحيوانات وطير وبيئة وكل محسوس.

## الدين عبارة عن مجموعة حقائق مجملة ثابتة غير متغيرة.

## الدين مصدره رب العزة جل جلاله، سواء جاء على شكل رسالة أرسلها الله أو فطرة زرعها الله.

أما التدين فهو على وزن تَفَعُّل أي تفعيل الشيء بمعنى تحويله من مبادئ وأفكار إلى أفعال، ولهذا يمكن تعريف التدين الذي نقصده نحن هنا كالتالي:

التدين: هو التفاصيل العملية المترتبة على المعتقدات الكلية للدين.
بمعنى آخر، هو تفعيل المبادئ الأساسية المجردة للدين لكي يتم تطبيقها في الواقع العملي، وبالتالي يمكن أن نقول أن الدين هو النظرية، والتدين هو تطبيقها. وكما للدين سمات، فإن للتدين سمات أيضاً وإليكم أبرزها:

## التدين مختص بالتفاصيل وليس بالعموميات.
## التدين عبارة عن تطبيق مرن لمبادئ الدين ما يعني أن التطبيق قابل للتغيير والتطوير.
## التدين مصدره بشري ويأخذ شكلين، شكل نبوي وآخر غير نبوي.

أحد أهم التحديات التي تواجهنا اليوم كمسلمين هو توضيح حقيقة أنه يجب ألا نخلط بين الدين ذو الثوابت التي لا تتغير، وبين التدين ذو الطبيعة المرنة المتغيرة.

إنَّ تحويلنا لكل شيء إلى دين، قد أضاع المرونة وقضى على التحديث والتطوير لأنَّ الدين هو ثوابت ثابتات لا تتغير ولا تتطور إلا من خلال الغوص في أعماق نفس المبادئ والثوابت والخروج بمعاني وأبعاد أعمق وأكثر لنفس المبادئ الثابتة.

وكنتيجة لتحويلنا لكل شيء على أنه دين وعدم تفرقتنا بين ما هو دين وبين ما هو تدين، أدَّى لتجميد كل شيء في حياتنا لأننا نرى أنَّ كل شيء دين. ولأنَّ الدين عبارة عن ثوابت لا تتغير ولا تتطور، تجمد فكرنا وصرنا جامدين لا نتغير ولا نتطور فتطور كل شيء حولنا وارتقى وبقينا نحن مجمدين في القاع وعالة على العالم.

ولكي نوضح طريقة توظيف الرواية من حيث تصنيفها كرواية تمس الدين أم رواية تمس التدين، فسوف نقدم عدة أمثلة للتوضيح كالتالي:

المثال الأول:
ورد في معظم كتب الروايات أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيام، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).

هذه الرواية تتعلق بكل وضوح بالدين وليس بالتدين لأنها تحمل كل سمات الدين التي ذكرناها أعلاه. وسنحلل كل سمة كالتالي:

السمة الأولى: الدين مختص بالكليات والعموميات فيما يخص علاقة الإنسان مع غيره سواء كان غيبياً غير محسوس مثل الخالق العظيم جل في علاه، أو محسوساً ملموساً من إنس وحيوانات وطير وبيئة وكل محسوس.
التعليق: وهنا طبعاً يمكن بكل وضوح أن نرى أنَّ الرواية تتكلم في العموميات فيما يخص علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

السمة الثانية: الدين عبارة عن مجموعة حقائق مجملة ثابتة غير متغيرة
التعليق: بكل يسر يمكن أن نرى أنَّ هذه الرواية تمس حقائق مجملة ثابتة غير قابلة للتغيير. فمهما تغيرت الأحوال والظروف وتبدلت الأزمنة والأماكن، فإنَّ ما ورد في الرواية صحيح. فلن يأتي زمان أو بالانتقال من المكان وتبدل الظروف، مهما تغير كل شيء سيفرج الله كربة كل من يفرج كربة عن أخيه.

السمة الثالثة: الدين مصدره رب العزة جل جلاله سواء جاء على شكل رسالة أرسلها الله أو فطرة زرعها الله.
التعليق: ما نُسب للنبي من كلام هنا يتوافق بكل تأكيد مع القرآن والعقل والعلم وبالتالي كلام النبي إن صح نسبته إليه يُعتبر مصدره الله جل في علاه لأنَّ القرآن يحوي الكثير من هذه المعاني السامية مثل قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). بل يمكن بوضوح رؤية أنَّ السلوك الإنساني الفطري هو وقوف الناس مع بعضهم في المحن ما لم تتشوه الفطرة بعوامل وظروف حياتية يمر بها بعض غلاظ القلوب الممتلئين بالقسوة.

خلاصة المثال هي أنَّ الرواية تتعامل مع أمر من أمور الدين الثابتة التي لا تتغير خاصة أنها ربطت السلوك في الدنيا بالجزاء والحساب في الآخرة ما يجعل توظيف الرواية يتجه نحو جعلها رواية تخدم الدين وليس التدين. أي أننا نفهم من نص الرواية إن صح نسبتها للنبي أنَّ ما ورد في الرواية يمكن أن يكون عامل مساعد لفهم شيء في القرآن عندما ندرسه و نتدبره. 
وعندما أقول عامل مساعد، فإنني أقصد أنه يمكن الاستئناس بالرواية لفهم شيء ما في القرآن، وليس لاستخراج حكم ديني منها. فما لم يكن له أصل في القرآن، لا يمكن أن نستخرج منه أحكام الدين لأنَّ الدين لا يقوم على الظن والروايات كلها ظنية الثبوت. فلا يُعقل أن يجتمع كل فقهاء السلف والخلف على أنَّ الروايات كلها ظنية الثبوت بمعنى أنه يُظن أنَّ النبي قالها، لا يمكن أن يجتمعوا على أنها ظن، ثم نقوم بعدها باستخراج الحلال و الحرام منها !!! لا يُعقل هذا لأن الحلال والحرام يترتب عليه ثواب وعقاب وحساب والله لا يمكن أن يحاسبنا على أمر ظني وصلنا بشكل ظني.  

المثال الثاني:
ورد في معظم كتب الروايات أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)
هذه الرواية تتعلق بشكل جلي بشأن من شؤون التدين وليس الدين لأن سمات الدين لا تنطبق عليها، بينما تنطبق عليها كل سمات التدين. وسنحلل هذه السمات كالتالي:

السمة الأولى:  التدين مختص بالتفاصيل وليس بالعموميات.
التعليق: من الواضح أنَّ الرواية تتحدث في تفاصيل أداء الصلاة وليس في العموميات. فمقارنة طريقة أداء الصلاة فرداً مع أداءها في جماعة هو من الفروع التفصيلية بكل وضوح.

السمة الثانية: التدين عبارة عن تطبيق مرن لمبادئ الدين ما يعني أنَّ التطبيق قابل للتغيير والتطوير
التعليق: هذه الرواية تُعتبر مثال جيد لشرح الفرق بين الدين والتدين. فأداء الصلاة في جماعة ليس من عموميات الدين ولا من أساسياته، وإنما هي من التدين والذي هو توضيح الطريقة التطبيقية التي تعكس العمل بموجب الدين الذي هو مبادئ ومعتقدات. فلا يوجد في الأولين والآخرين من يجعل صلاة الجماعة أساساً من أساسات الدين التي لا يقوم إلا بها، بل هي طريقة تطبيقية لتفعيل المعتقد الديني ولهذا لا يوجد بالمطلق بين الفقهاء قديماً أو حديثاً من يجعل الصلاة في جماعة ركن من أركان الصلاة أو من شروط صحتها. ومرونة أداء صلاة الجماعة لا تخفى على أحد. فترك صلاة الجماعة يخضع لظروف الإنسان مثل الصحة والمرض والسفر والإقامة والظروف المعيشية المختلفة. 
    
السمة الثالثة: التدين مصدره بشري ويأخذ شكلين، شكل نبوي وآخر غير نبوي.
التعليق: العبادات بشكل عام تأخذ شكل الاجتهاد البشري سواء كان بالاقتداء بطريقة أداء النبي لها من خلال السُنة العملية المتواترة أو من خلال اجتهادات الفقهاء في صورة طرح تصورهم ورأيهم في تفاصيل أي عبادة. العبادات هي أقرب المرادفات لمعنى مصطلح التدين الذي نتعامل معه في قواعدنا لتجديد فهم ديننا. وبالنظر للمثال هنا، فإن مصدر طريقة أداء الصلاة في جماعة هو مصدر بشري وليس مصدر إلهي لأنَّ الله ترك تفاصيل التدين (العبادات) للنبي وللمؤمنين كي يجتهدوا في وضع تفاصيلها. وبالتدقيق في مثالنا هنا، فإنه من الواضح أنَّ صلاة الجماعة لم تأخذ الشكل الإلزامي وإنما الشكل التفضيلي كونها ليست من عموميات الدين وأساساته العقدية.

خلاصة مثالنا الثاني هي أن تفاصيل التدين (العبادات) هي أمور متغيرة مرنة تخضع لمصلحة الإنسان في المقام الأول و لهذا لم يكن أي شيء في التدين يأخذ صورة الإلزام عندما يتعلق الأمر بها. نحن بحاجة لمعرفة الرواية التي تتعلق بأمور التدين لسببين مهمين:

الأول: لأننا نعرف أنَّ التدين في أغلب تفاصيله لن نجده في القرآن لأنه متغير وغير ملزم.
الثاني: لأننا يجب أن نعرف أن رواية التدين ليست هي الروايات التي تساعدنا لمعرفة قواعد الدين والحلال والحرام.

تمييز الرواية بأنها تمس التدين مع فهم الفرق بين الدين والتدين سوف يقودان لفهم أفضل للدين وهو ما سنتوسع به في المقالات القادمة بإذن الله.

سنكتفي بهذا القدر في مقالنا هذا ونعود إليكم بإذن الله بمقال التفاعل لنختم قواعد منهجية التعامل مع الروايات. 
ابقوا سالمين لا غادرتكم سلامة ولا #سعادة.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...