قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (مقال التفاعل)

قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (مقال التفاعل)

اليوم بعون الله سوف نقدم مقال التفاعل مع الأسئلة والتعليقات والتي ورد منها الكثير على موضوعنا والذي هو القاعدة الرابعة من قواعد التعامل مع الروايات. هذه القاعدة تقول أنه يجب علينا فحص الرواية لنعرف هل فيها ما يدل على حالة "التبليغ" أم لا. وللتذكير، فإنَّ القاعدة الرابعة ليست أداة من أدوات فحص إمكانية أن تكون الرواية قد حصلت بالفعل، أم أنه لا يمكن أن تكون قد حصلت. نحن هنا في القاعدة الرابعة نتعامل مع الرواية على أنه لا يوجد ما يمنع من أن تكون صحيحة وحصلت لأنها قد مرت على عملية الفحص المتمثلة بتطبيق القواعد الثلاث الأولى من قواعد منهجية التعامل مع الروايات.

من ضمن ما أريد الإشارة إليه هنا، هو أنَّ القاعدة الرابعة والقاعدة الخامسة (التي سنتناولها بإذن الله في المقال القادم)، هما قاعدتان تعترفان بالرواية وتفترضان أنها يمكن أن تكون حقيقية. وبالتالي نحن بتقديم القاعدة الرابعة والخامسة نقدم دليل على أنَّ كل من يتهمنا بإنكار السنة وإنكار الأحاديث إنما يفتري علينا الكذب لأننا بالفعل نعترف بالروايات ونتعامل معها لكن وفق منهجية جديدة و ليس بنفس منهجية وعقلية من عاش قبل مئات السنين. 

نحن لسنا ضد الروايات وإنما ضد إلغاء عقولنا والاكتفاء بالتقليد والاجترار والترديد دون تفكير أو تجديد في قواعد الفهم والاستنباط. مرحباً بالروايات وبكل الأحاديث طالما تم التعامل معها ضمن منهجية علمية عملية تجعلنا نوظفها التوظيف الصحيح الذي يليق بها.
على العموم بمجرد دخولنا على القاعدة الرابعة، فإننا بهذه القاعدة نثبت أننا مع السُّنة والأحاديث والروايات وأنَّ كل من يتهمنا زوراً بإنكار السنة إنما يضع نفسه في موقف المفتري والمزور أمام الله عندما نقف نحن وهم بين يدي الله للفصل والحساب.

خلاصة المقدمة هي أنه عندما تصلنا رواية، فإنه قبل أن نعاملها بتقديس ونحولها إلى دين ونستخرج منها الحلال والحرام، فإنه حسب القاعدة الرابعة، التي شرحناها، فإنه يجب فحص مسرح أحداث الرواية لنعرف هل ما ورد فيها جاء ضمن حالة تبليغ يُبلِّغ فها الرسول ديناً وحلالاً وحراماً، أم أنها قصة عابرة لا يوجد للتبليغ فيها أي أثر. 

تجاهل هذا الأمر قد يقود إلى تحريف الدين بالزيادة أو النقصان والتقول على الله والوقوع تحت طائلة قول ربنا جل في علاه (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ). 
هذه الآية وحدها تكفي لجعلنا نعيد التفكير في طريقة تعاملنا مع الروايات التي صارت عند البعض أقدس من القرآن، بل وحتى تلغي آياته.

والآن دعونا نبدأ بالتفاعل مع التعليقات والأسئلة من خلال النقاط المتفرقة التالية:

## تم إثارة موضوع موقف النبي صلى الله عليه وسلم من تدوين أصحابه لحديثه. وبمناسبة هذا الأمر، فإنَّ موقف النبي من تدوين كلامه يخدم فكرة القاعدة الرابعة كون الثابت في كتب الروايات أن النبي عليه السلام نهى نهيّ صريح ومباشر لا لبس فيه عن كتابة أي شيء يقوله غير القرآن. وهذا بالطبع يتوافق مع حقيقة أنَّ النبي يعرف أنَّ التدوين هو أحد صور "التبليغ". أي أنَّ النبي نفسه صلى الله عليه و سلم كان مدرك لخطورة تدوين كلامه غير القرآن. فكلام النبي (من غير القرآن) هو خليط من اجتهادات بشرية يقدم فيها النبي رأيه الشخصي فيها, أو تفاعل اجتماعي مع المحيطين به، أو أوامر ونواهي تتصل بدوره القيادي كقائد سياسي وعسكري لمجتمع المدينة المنورة. 

ولأنَّ الأمر كذلك، فقد قام النبي بالعمل الرشيد الذي يليق بمقامه كرسول آمين بأن نهى أصحابه أن يكتبوا عنه أي شيء غير القرآن. أي أنَّ النبي نفسه مدرك لحقيقة أنَّ كلامه ليس دين ولا هو تشريع و إلا ألزمه التبليغ، ومن ضمن صور التبليغ أن يطلب التدوين. 
الأهم، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفي بعدم طلب التدوين فقط، بل نهى عنه.
كيف بالله عليكم أن يعرف النبي أنَّ كلامه دين وتشريع من الأمور التي يلزم أن تعرفها أمته وأن تبلغ كل مسلم، كيف يعرف أنَّ الله محاسبهم عليها ثم لا يقوم بكل ما يلزم من إجراءات التبليغ، وبل يقوم بالعكس تماماً بمنع التدوين والذي هو أحد أهم صور التبليغ وأدواته؟ 
تخيلوا أن يقول النبي شيء ويأتي أصحابه ليكتبوه فيقوم بنهيهم عن كتابته، ثم يأتي من يحاول أن يقنعنا أن ما قاله النبي هو تشريع ودين! كيف يُعقل هذا؟ 

منع النبي أصحابه من الكتابة يعني أنه لا يريد أن يبلغ للناس ما يقوله عليه السلام على شكل أحد صور التبليغ والتي هي التدوين ليتجنب أن يأخذ كلامه الصورة الإلزامية التي يحملها الدين والتشريع، وبالتالي يكون النبي نفسه هو من قرر أنَّ كلامه ليس تشريع ولا هو دين ولست أنا من اخترع هذا. لأنه لو كان صلى الله عليه وسلم يعرف أن كلامه يمثل تشريع ودين، فحينها سيأمر بتدوين الدين والتشريع لأنه مأمور بالتبليغ، فما بالكم أن يقوم بالعكس!

وضمن نفس المسألة، فإنَّ بعض من يريد جعل كل كلام النبي دين وتشريع يحاول تبرير منع النبي لأصحابه من كتابة الحديث بإدعاء أنَّ السبب كان لأنه لا يريدهم أن يخلطوا بين كلامه وبين القرآن. 
للأسف من يقول هذا فهو كما يقولون جاء ليكحلها فأعماها. فالقول بأنَّ النبي يعتقد أنَّ أصحابه يمكن أن يختلط عليهم كلام الله مع كلام النبي ويلتبس عليهم الأمر، فكأنما يقول أن القرآن ليس فيه أي إعجاز إلهي لدرجة أن من يسمع القرآن سيعتقد أنه كلام بشر. كلنا نعرف أنَّ كلام الله لا يستطيع أن يأتي بمثله أحد، ليس فقط من ناحية البلاغة والصياغة، وإنما من كل جوانب الإعجاز الإلهي في مستوى العمق المعنوي والمعرفي الذي قد يذهب إليه النص القرآني الذي لا يمكن للإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بمثله فضلاً عن أن يكون النبي قادر على أن يأتي بمثله. 

حجة خوف الخلط بين كلام النبي وبين القرآن هي إساءة للقرآن ولما فيه من إعجاز لا يبلغه بشر.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ من يحاول الهروب من حقيقة أنَّ النبي قد نهى أصحابه عن كتابة كلامه بالقول أنَّ المنع كان مؤقت وأنَّ النبي أمر لاحقاً بتدوين حديثه، فالرد على هذه الحجة يكون على وجهين:

الأول: نحن نعرف أنَّ أصحاب النبي يمتثلون لأوامره كلما أمر. وبالتالي لو حصل أنَّ النبي قد أمر أصحابه بتدوين القرآن سواء في بداية البعثة أو في آخرها، فلابد ولزاماً أن يكون عدد كبير من أصحابه قد أمتثل لأمر الكتابة و صار كلهم يكتب ما يسمع عن رسول الله. بل سنجد روايات متكررة تثبت أنَّ أصحاب النبي على الأقل في آخر سنوات البعثة كانوا لا يدخلون في حضرة رسول الله إلا والمدونات و الصحائف في أيديهم استعداداً لكتابة أي شيء يقوله رسول الله. 

كنتيجة، كان لابد ولزاماً أن تصل للجيل الثاني وهم التابعين الكثير والكثير من المدونات والصحائف التي دونها مئات وربما آلاف من أصحاب رسول الله والتي دونوا فيها حديثه.

لكن تخيلوا معي كم عدد الصحائف والمدونات التي وصلت لجيل التابعين من جيل أصحاب النبي، أريدكم أن تتخيلوا أنَّ النبي أمر بكتابة حديثه في نهاية البعثة يوم كان أصحابه يُعدون بعشرات الآلاف، وأنَّ مئات (إن لم يكن آلاف) منهم كان يدوِّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. خمنوا معي كم مدونة وصحيفة وصلت.

عدد ما وصل من آلاف أو مئات الصحف و المدونات هو صــــــفــــــر (0) !!!!!!. ببساطة، لأنه لم تكن هناك مدونات و لم يدون أصحاب النبي حديثه ومن دوَّن شيء أتلفه بعد نهي النبي عن الكتابة. لا يخدعنكم أحد بروايات تدعي وجود مدونات لأنَّ الواقع يكذبها. فلا يوجد ولو رواية واحدة على الإطلاق سلسلتها الصحابي الراوي فقط. لا يوجد بالمطلق. في كل كتب الروايات من أولها لآخرها بصحيحها وضعيفها لا يوجد رواية واحدة بسند فيه أحد أصحاب النبي فقط. 
وأهمية هذا الأمر يكمن في حقيقة أنه لو وصلت أي مدونة لأحد أصحاب النبي للجيل الذي يليهم أو الأجيال التالية، فإنَّ من سيدوِّن الحديث في كتابه نقلاً عن الصحيفة، فإنه سوف يضع الرواية خالية من السند إلا من أسم صاحب النبي الذي ترك مدونته ووصلت لمن بعده، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق، مما يعني أن إدعاء أنَّ النبي أمر بكتابة حديثه هو إدعاء غير صحيح يكذبه الواقع العملي. بينما الإدعاء بأنَّ النبي نهى عن كتابة حديثه بالمطلق هو إدعاء تؤكده الروايات بشكل مباشر صريح ويثبت صحته الواقع العملي وهو عدم وجود أي رواية على الإطلاق سندها فيه أسم واحد فقط وهو صحاب النبي الذي روى الرواية. 

الثاني: أنَّ الروايات التي أُدُعِيَّ أنَّ النبي أمر فيها بالكتابة جاءت بصياغة لا تعطي أمر جماعي عام بإباحة الكتابة وكلها روايات خاصة لا يمكن تعميمها على أنها أمر عام بالكتابة، في المقابل، فإنَّ روايات النهي عن الكتابة جاءت بصيغة مباشرة عامة صريحة وبصيغة التعميم الغير قابلة للتشكيك.

## تطرق بعض الأصدقاء لموضوع مهام النبي، هل هي محصورة فقط في تبليغ القرآن أم أن له مهام أخرى. بطبيعة الحال فإنَّ المهمة الأكبر والأهم للنبي كانت في أن يبلغ القرآن ويشرف على مدى الـ 23 سنة من البعثة النبوية على عملية تدوين وحفظ الرسالة والدين متمثلتان في القرآن الكريم. لكن بكل تأكيد ستكون هناك مهام جانبية أخرى منها ما هو خاص بزمنه ومنه ما يمكن أن يتوسع لأزمنة وقرون أخرى. ففي زمنه كان له دور جوهري مهم وهو ممارسة المهام القيادية كقائد ملهم وقدوة على كل الأصعدة والتي منها الصعيد الاجتماعي والسياسي والعسكري. لم يكن من الممكن أن يتم اختصار الأمر بتبليغ رسالة القرآن والدين، وإنما العمل على حفظهما في مواجهة أعداء متربصون يرفضون القرآن والدين معاً. فكان لابد من حمل النبي لشارة القيادة لمواجهة التحديات التي تواجه رسالة القرآن والدين.

أما فيما يتعلق بالمهام التي تتجاوز حياته ووقته وزمنه، فهي كون الدين كعقيدة ومبادئ أصَّلها القرآن ووضع لها أسسها، فإنَّ اعتناق عقيدة الإسلام وتبني مبادئه هو أمر عملي تطبيقي يحتاج لممارس أول يقتدي به من يريد أن يعتنق بالملة المحمدية وهو ما اسميه "التدين". 

التدين هو على وزن التفعُّل وهو في حقيقته تفْعيّل مبادئ العقيدة والدين. فالعبادات التي تمثل لب التطبيق العملي للدين هي التدين الذي كان على النبي دور أن يقدمه لنا في الصورة التي تحقق الحد الأدنى من السير على مبادئ الدين والاعتقاد به. ولكي لا أطيل الشرح هنا، فإنه لدينا مقال سابق بالخصوص فيه توسع أكبر لمفهوم الدين والتدين يمكن الرجوع إليه من خلال الروابط التالية:


## تطرق البعض لموضوع طاعة الرسول. وللأسف هذا الأمر من أكثر الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكثير من المسلمين. فالآيات التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول هي جزء من القصص القرآني وليست جزء من التشريع الديني. والخطاب أصلاً كان موجه لأصحابه الذين كانوا معه وقت حياته صلى الله عليه وسلم. فلا يجب أن ننسى أنَّ النبي لم يكن مُبلِّغ رسالة فقط، بل كان قائداً على كل الأصعدة الممكنة في مجتمع المدينة المنورة. وبدون أن تكون طاعته واجبة وجوباً دينياً مطلقاً، ما كانت مهمته لتتم بنجاح. لهذا كان على مجتمع المدينة أن ينقاد للرسول ويطيعه. أما الأجيال التي جاءت من بعد وفاة النبي عليه السلام، فهم أصلاً لم تتاح لهم فرصة رؤيته فضلاً عن أن يتفاعلوا معه فيأمرهم ويسمعوا له. النبي لم يترك لنا صحيفة فيها أوامره ولا هو الذي أمر أصحابه أن يدونوا شيئاً مما أمر به ونهى عنه.

لم يترك لنا النبي شيء وحتى لم يترك لنا أصحابه شيء لكي نقول هذه أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل ما وصلنا عن رسول الله، كله بدون استثناء، هي روايات قلة قليلة منها تم جمعها بعد انقضاء زمن حصولها بما لا يقل عن قرن من الزمان، بينما الغالبية الساحقة العظمى منها تم جمعها بعد مئات السنين. وبالتالي فإن ملايين المسلمين الذين عاشوا في أقاصي الأرض من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً والذين ولدوا وعاشوا ولم يلتقي أغلبهم بأصحاب رسول الله وعاشوا وماتوا قبل أن يولد الشافعي والبخاري والطبري، هؤلاء الملايين عاشوا وماتوا ولم يكن بين أيديهم سوى كتاب الله ولم يروا رسول الله ولم يصلهم من أوامره ونواهيه التي جاءت في الروايات التي تم جمعها من بعدهم، هؤلاء وحدهم يثبتون أنَّ كل آيات الأمر بطاعة الرسول هي موجَّهة لقومه الذين عاش بينهم وليست لعموم الناس بعده لمئات آلاف السنين. 

وهنا أيضاً أنصح من يرغب في التوسع في فهم هذه النقطة أن يقرأ مقالنا السابق بخصوص الفرق بين القصص والتشريع في القرآن والذي تجدونه في الرابط التالي:

## النقطة الأخيرة هي ما أثاره البعض بخصوص أنه لا يمكن أن يقوم الدين بدون روايات وأنَّ القرآن وحده لا يكفي وأنه بدون الروايات لن نعرف كيف ومتى نصلي وأنَّ الدين بدون الروايات سيكون ناقص منقوص. طبعاً الرد على هذا الكلام طويل ولا يتسع المجال لوضعه هنا.

وبما أننا رددنا عليه في مقالات سابقة، فسوف أضع رابط المقال التالي والذي فيه جوابنا بالخصوص لمن يريد أن يسمع رأي مختلف عن الرأي الذي تربى عليه وتم تلقينه له منذ الطفولة. إليكم الرابط التالي:

بهذا نصل لنهاية مقال التفاعل وبإذن الله سنبدأ من المقال التالي في تناول قاعدتنا الخامسة والأخيرة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات.
دمتم سالمين وقلوبكم ملأتها #السعادة.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...