قاعدة التفريق بين روايات الدين وروايات التدين (المقال المختصر)
اليوم نبدأ بوضع اللمسات الأخيرة على قواعد منهجية التعامل مع الروايات. فقد وصلنا للقاعدة الخامسة والأخيرة والتي تقول:
القاعدة الخامسة: تحديد ما إذا كانت الرواية تختص بالدين أم بالتدين
بطبيعة الحال، فإنني هنا مضطر لإعادة شرح مفهوم الدين والتدين لكي نستطيع معاً فهم كيفية توظيف الرواية وما يمكن أن نستفيد به منها. وهنا لابد أن أعيد التذكير بأنَّ القواعد الخمس للتعامل مع الروايات تعمل الثلاث الأولى منها على "فلترة" المقبول من الروايات من غير المقبول بعرضها على القرآن، العقل، والعلم على الترتيب كما بيَّنا في القواعد الثلاث الأولى. فإذا كانت الرواية لا تتعارض مع القرآن وتعُتبر معقولة لا تتصادم من المنطق الإنساني المشترك وليس فيها ما يتضاد مع حقائق العلم والتاريخ المقطوع بثبوتها، فحينها نعمل على توظيف الرواية بالشكل الصحيح ووضعها ضمن سياق أحداثها لنعرف هل هي رواية عابرة لحادثة عابرة لا علاقة لها بالدين، أم أنها رواية تمس الدين بشكل مباشر؟
وهذا ما تناولناه في القاعدة الرابعة التي تعتني بالبحث عن وجود علامات "التبليغ" أو أحد أدواته في قصة الرواية. فإن وُجِد ما يدل على حالة "تبليغ"، ثبت لدينا أنَّ الرواية تمس الشأن الديني والتشريعي الملزم وإلا فإنها مجرد قصة عابرة لا يمكن حملها على محمل الدين والتشريع الملزم.
اليوم نظرتنا لتوظيف الرواية تتناول المسألة من زاوية مختلفة وهي زاوية طبيعة ما تمسه الرواية من الدين. هل هي تمس جانب الدين، أم جانب التدين. ولهذا دعونا هنا نعود لمفهوم الدين والتدين. ولأنَّ هذا المقال هو المقال المختصر، فلن أتوسع في الشرح تاركاً التوسع لمقالنا القادم بإذن الله عندما نقدم المقال المُفصَّل. ولنبدأ هنا بتوضيح ما نقصد بالدين وما نعني بالتدين:
الدين: هو المعتقدات الكلية الخاصة بطبيعة السلوك والعلاقة بين الإنسان وكل ما حوله ... منها ما هو غيبي مرتبط بما وراء الطبيعة من غير المحسوس والملموس، ومنها ما هو حسي مرتبط بالموجودات المحسوسة في الطبيعة.
ويمكن تلخيص سمات الدين في النقاط التالية:
## الدين مختص بالكليات والعموميات فيما يخص علاقة الإنسان مع غيره سواء كان غيبياً غير محسوس مثل الخالق العظيم جل في علاه، أو محسوساً ملموساً من إنس وحيوانات وطير وبيئة وكل محسوس.
## الدين عبارة عن مجموعة حقائق مجملة ثابتة غير متغيرة.
## الدين مصدره رب العزة جل جلاله سواء جاء على شكل رسالة أرسلها الله أو فطرة زرعها الله.
أمَّا التدين فهو على وزن تَفَعُّل أي تفعيل الشيء بمعنى تحويله من مبادئ وأفكار إلى أفعال ولهذا يمكن تعريف التدين الذي نقصده نحن هنا كالتالي:
التدين: هو التفاصيل العملية المترتبة على المعتقدات الكلية للدين.
بمعنى آخر، هو تفعيل المبادئ الأساسية المجردة للدين لكي يتم تطبيقها في الواقع العملي؛ وبالتالي يمكن أن نقول أنَّ الدين هو النظرية. والتدين هو تطبيقها.
وكما للدين سمات، فإن للتدين سمات أيضاً وإليكم أبرزها:
## التدين مختص بالتفاصيل وليس بالعموميات.
## التدين عبارة عن تطبيق مرن لمبادئ الدين ما يعني أن التطبيق قابل للتغيير والتطوير.
## التدين مصدره بشري ويأخذ شكلين، شكل نبوي وآخر غير نبوي.
أحد أهم التحديات التي تواجهنا اليوم كمسلمين هو توضيح حقيقة أنه يجب أن لا نخلط بين الدين ذو الثوابت التي لا تتغير، وبين التدين ذو الطبيعة المرنة المتغيرة.
إنَّ تحويلنا لكل شيء إلى دين، قد أضاع المرونة وقضى على التحديث والتطوير لأن الدين هو ثوابت ثابتات لا تتغير ولا تتطور إلا من خلال الغوص في أعماق نفس المبادئ والثوابت والخروج بمعاني بأبعاد أعمق وأكثر لنفس المبادئ الثابتة.
وكنتيجة لتحويلنا لكل شيء على أنه دين وعدم تفرقتنا بين ما هو دين وبين ما هو تدين، أدَّى لتجميد كل شيء في حياتنا لأننا نرى أنَّ كل شيء دين. ولأنَّ الدين عبارة عن ثوابت لا تتغير ولا تتطور، تجمد فكرنا وصرنا جامدين لا نتغير ولا نتطور فتطور كل شيء حولنا وارتقى وبقينا نحن مجمدين في القاع وعالة على العالم.
ولكي نوضح طريقة توظيف الرواية من حيث تصنيفها كرواية تمس الدين أم رواية تمس التدين، فسوف نقدم عدة أمثلة للتوضيح كالتالي:
المثال الأول:
ورد في معظم كتب الروايات أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيام، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).
هذه الرواية تتعلق بكل وضوح بالدين وليس بالتدين لأنها تحمل كل سمات الدين التي ذكرناها أعلاه. وسنحلل كل سمة كالتالي:
السمة الأولى: الدين مختص بالكليات والعموميات فيما يخص علاقة الإنسان مع غيره سواء كان غيبياً غير محسوس مثل الخالق العظيم جل في علاه، أو محسوساً ملموساً من إنس وحيوانات وطير وبيئة وكل محسوس.
التعليق: وهنا طبعاً يمكن بكل وضوح أن نرى أنَّ الرواية تتكلم في العموميات فيما يخص علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
السمة الثانية: الدين عبارة عن مجموعة حقائق مجملة ثابتة غير متغيرة
التعليق: بكل يسر يمكن أن نرى أنَّ هذه الرواية تمس حقائق مجملة ثابتة غير قابلة للتغيير. فمهما تغيرت الأحوال والظروف وتبدلت الأزمنة والأماكن، فإنَّ ما ورد في الرواية صحيح. فلن يأتي زمان أو بالانتقال من المكان وتبدل الظروف، مهما تغير كل شيء سيفرج الله كربة كل من يفرج كربة عن أخيه.
السمة الثالثة: الدين مصدره رب العزة جل جلاله سواء جاء على شكل رسالة أرسلها الله أو فطرة زرعها الله.
التعليق: ما نُسب للنبي من كلام هنا يتوافق بكل تأكيد مع القرآن والعقل والعلم وبالتالي كلام النبي إن صح نسبته إليه يُعتبر مصدره الله جل في علاه لأنَّ القرآن يحوي الكثير من هذه المعاني السامية مثل قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). بل يمكن بوضوح رؤية أنَّ السلوك الإنساني الفطري هو وقوف الناس مع بعضهم في المحن ما لم تتشوه الفطرة بعوامل وظروف حياتية يمر بها بعض غلاظ القلوب الممتلئين بالقسوة.
خلاصة المثال هي أنَّ الرواية تتعامل مع أمر من أمور الدين الثابتة التي لا تتغير خاصة أنها ربطت السلوك في الدنيا بالجزاء والحساب في الآخرة ما يجعل توظيف الرواية يتجه نحو جعلها رواية تخدم الدين وليس التدين.
المثال الثاني:
ورد في معظم كتب الروايات أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)
السمة الأولى: التدين مختص بالتفاصيل وليس بالعموميات.
التعليق: من الواضح أنَّ الرواية تتحدث في تفاصيل أداء الصلاة وليس في العموميات. فمقارنة طريقة أداء الصلاة فرداً مع أداءها في جماعة هو من الفروع التفصيلية بكل وضوح.
السمة الثانية: التدين عبارة عن تطبيق مرن لمبادئ الدين ما يعني أنَّ التطبيق قابل للتغيير والتطوير
التعليق: هذه الرواية تُعتبر مثال جيد لشرح الفرق بين الدين والتدين. فأداء الصلاة في جماعة ليس من عموميات الدين ولا من أساسياته، وإنما هي من التدين والذي هو توضيح الطريقة التطبيقية التي تعكس العمل بموجب الدين الذي هو مبادئ ومعتقدات. فلا يوجد في الأولين والآخرين من يجعل صلاة الجماعة أساساً من أساسات الدين التي لا يقوم إلا بها، بل هي طريقة تطبيقية لتفعيل المعتقد الديني ولهذا لا يوجد بالمطلق بين الفقهاء قديماً أو حديثاً من يجعل الصلاة في جماعة ركن من أركان الصلاة أو من شروط صحتها. ومرونة أداء صلاة الجماعة لا تخفى على أحد. فترك صلاة الجماعة يخضع لظروف الإنسان مثل الصحة والمرض والسفر والإقامة والظروف المعيشية المختلفة.
السمة الثالثة: التدين مصدره بشري ويأخذ شكلين، شكل نبوي وآخر غير نبوي.
التعليق: العبادات بشكل عام تأخذ شكل الاجتهاد البشري سواء كان بالاقتداء بطريقة أداء النبي لها من خلال السُنة العملية المتواترة أو من خلال اجتهادات الفقهاء في صورة طرح تصورهم ورأيهم في تفاصيل أي عبادة. العبادات هي أقرب المرادفات لمعنى مصطلح التدين الذي نتعامل معه في قواعدنا لتجديد فهم ديننا. وبالنظر للمثال هنا، فإن مصدر طريقة أداء الصلاة في جماعة هو مصدر بشري وليس مصدر إلهي لأنَّ الله ترك تفاصيل التدين (العبادات) للنبي وللمؤمنين كي يجتهدوا في وضع تفاصيلها. وبالتدقيق في مثالنا هنا، فإنه من الواضح أنَّ صلاة الجماعة لم تأخذ الشكل الإلزامي وإنما الشكل التفضيلي كونها ليست من عموميات الدين وأساساته العقدية.
خلاصة مثالنا الثاني هي أن تفاصيل التدين (العبادات) هي أمور متغيرة مرنة تخضع لمصلحة الإنسان في المقام الأول ولهذا لم يكن أي شيء في التدين يأخذ صورة الإلزام عندما يتعلق الأمر به.
سنكتفي بهذا القدر في مقالنا المختصر هذا على أن نعود إليكم في المقال القادم بإذن الله بتفاصيل أكثر.
نسأل الله للجميع السلامة و#السعادة ودوام الصحة.. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment