قاعدة التفريق بين روايات الدين وروايات التدين (مقال التفاعل)
مقالنا اليوم معنيٌ بالتفاعل مع التعليقات والأسئلة التي وردت بخصوص موضوعنا الأخير في سلسلة قواعد منهجية التعامل مع الروايات. وكنا بالطبع وصلنا للقاعدة الخامسة لهذه المنهجية والتي هي فحص الرواية لمعرفة ما تتناوله. هل هو شأن من شؤون الدين، أم شأن من شؤون التدين.
أهمية هذا التفريق بين ما يخص الدين، وبين ما يخص التدين، يكمن في أنَّ كثير من الروايات يتم معاملتها على أنها شأن من شؤون الدين العقدية التشريعية الملزمة وغير المتغيرة، بينما هي في حقيقتها تمس شأن من شؤون التدين الذي يحمل الكثير من المرونة علاوة على أنه قابل للتغير والتطور مع تغير الزمان والمكان والظروف. ولهذا فإنه من الضروري لكي نوظف الرواية التوظيف الصحيح أن نقوم بفحص متنها لنعرف حقيقة ما تمسه من الدين.
بطبيعة الحال نحن شرحنا ما نعنيه بالدين وبالتدين كمصطلحات نقصد بها معاني ومفاهيم بعينها، ولسنا بصدد إعادة الشرح هنا. لذا أرجو من الأخوة المتابعين الأفاضل الجدد أن يقوموا بمراجعة المقال السابق سواء في صفحتنا هذه أو في مدونة الصفحة للإطلاع على المزيد من الشروح والتفاصيل عما نقصده بمصطلح "الدين" و مصطلح "التدين".
ولتسيهل الأمر، فإن رابط مدونة الصفحة التي يحوي كل المقالات السابقة هو في الأسفل:
والآن دعونا نبدأ التفاعل مع التعليقات والأسئلة التي وردت تحت المقالين المختصر والمُفصَّل. والتفاعل سيتم حصره في نقطة مهمة تم إثارتها في التعليقات وهي موضوع السند. للأسف البعض لا يفرق بين مصطلح "السند" سند الرواية، ومصطلح "المتن" متن الرواية. وأحياناً هناك من يعرف الفرق بينهما ولكنه ينسى أو لا يعرف أن السند وحده لا يكفي للحكم على الرواية بالصحة أو الضعف وأنه غالباً لا علاقة له بطريقة توظيف الرواية.
السند هو دراسة سلسلة رواة الرواية من نواحي عدة للوصول إلى استنتاج مبني على أغلب الظن في صحة الرواية أو ضعفها. فالسند الصحيح لا يعني أن الرواية حقيقية وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما ورد؛ لأنَّ هامش الشك والظن موجود في كل فرد من أفراد سلسلة الرواية. ولهذا صنف فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً كل الروايات بأنها ظنية الثبوت وتُروى بالمعنى لاستحالة الوصول لليقين اعتماداً على شهادة بشر في بشر. فكل جامعي الروايات سواء البخاري أو مسلم أو الترمذي أو أحمد أو ابن ماجة أو غيرهم، لم يقوموا بشيء أكثر من أنهم أعطوا رأيهم في أول فرد في سلسلة السند الذي كان حي وسمعوا منه بشكل مباشر، ثم استأنسوا لآراء غيرهم من الرواة أو المحدثين في باقي أفراد سلسلة السند الأموات معتمدين على ماذا قال فلان في صدق فلان وماذا قيل عن فلان في حفظه وورعه.
أي أنَّ موضوع السند مبني كله على أراء ناس في ناس ورجال في رجال وليس مبني على أساس سماوي محسوم بتزكية إلهية بالاسم لأي فرد من أفراد الرواية. حتى الصحابي الذي يختم سلسلة الرواية لا يوجد لأي منهم صك تزكية سماوي نزل به جبريل على رسول الله في القرآن. بل العكس تماماً، النص السماوي الوحيد الذي تحدث عن أهل المدينة ومن فيهم صادق ومن منهم منافق، هذا النص نفى علم الرسول نفسه بأحوال قلوب أصحابه من ناحية الصدق أو النفاق بقوله تعالى من ضمن أواخر السور التي نزلت على رسول الله في سورة التوبة الآية
101 (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ).
تكفينا هذه الآية فقط لننزجر عن التأله على الله ومحاولة الظهور بأننا نعلم ما في القلوب ونعلم الصادق من المنافق. اقرءوا هذه الآية مرات ومرات وركزوا جيداً. الله جل في علاه الذي يعلم الغيب وما تخفي الصدور وحده لا شريك له في ذلك يخبر نبيه ويقول له ما معناه (أنت يا محمد لا تعلم الصادق من المنافق في المدينة من الذين من حولك، الله وحده يعلمهم).
ركزوا في كل كلمة في الآية قبل أن يتأله أحدنا على الله ويدَّعي عصمة فلان أو علان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كأننا شركاء لله نعلم الغيب وما تخفي الصدور.
إذا أزلنا كل مستحضرات التجميل التي تم إلقائها على مصطلح "السند" طيلة القرون الماضية، فيمكن أن نرى بكل سهولة أنَّ السند ما هو إلا رأي ناس في ناس لا يعلم بعضهم ما في قلوب بعض، ولهذا تصحيح أو تضعيف الرواية كله من أوله لآخره مبني على أغلب الظن؛ ولهذا لا يمكن أن يكون "السند" معيار نستخدمه لجعل أي رواية مهما علا سندها مصدر تشريع قطعي لعقيدة أو حلال أو حرام. فالاعتقاد والحلال والحرام لا يمكن أن نبنيه على ظن؛ ببساطة لأنَّ الله عندما يحاسبنا يوم القيامة على عقائدنا والحلال والحرام، لن يحاسبنا بشيء ظني لأنه عادل لا يُحملنا ما لا نطيق ولا يحاسبنا على ما نحن لسنا متيقنين منه.
لهذا، يأتي دور مصطلح "المتن". المتن هو نص الرواية، كلام الرواية، قصة الرواية، وكل ما جاء فيها من أحداث. المتن هو ما يستحق الدراسة الشاملة والعميقة لكي نتمكن من توظيف الرواية أو التوصل لما يمكن أن نستفيد به منها. ما نحن بحاجة لتجديده بشكل ملح هو تجديد ما يسمونه علم الحديث والذي هو كله يمكن اختصاره في جملة "رأي بشر في بشر".
كل علم الحديث بعمومه وبكل ما فيه من تفاصيل يدور حول رأي فلان في فلان وماذا قال فلان عن فلان. أنا بالطبع لا أقول أن كل ما قام به الرواة من جهد عظيم لا ينفعنا في شيء، بل إنَّ جهدهم عظيم و نسأل الله أن يجزل لهم الثواب والأجر على ما قاموا به من جهود جبارة.
ما أود الإشارة إليه ليس التقليل من قيمة السند، وإنما التقليل من حجم الاعتماد عليه. نريد أن ننزل السند منزلته التي تليق به ونرفض رفعه منزلة القول الفصل في الحكم على الرواية و طريقة الاستنباط منها.
السند يساعدنا على التخلص من كل رواية فيها شك واضح وضعيفة الطرق. هذا بكل تأكيد شيء عظيم سيجعلنا نقلص حجم الروايات التي تعد بعشرات الآلاف لتصبح بضعة آلاف. السند ساعدنا ويساعدنا في تصفية (فلترة) كثير من الوضع والكذب على رسول الله عليه الصلاة و السلام. لكن بعد التصفية التي يقدمها لنا السند، سيبدأ العمل الشاق والمهم والمضني والذي هو دراسة "المتن". المتن هو الذي يُعتبر عمل عقلي وجهد فكري يحتاج لأذكياء وعباقرة للبحث والتدقيق والاستنتاج.
دراسة المتن هو عمل جبار لأنَّ كل رواية تحتاج لعمل يكافئ في حجمه عمل المحققين الجنائيين في البحث في ملابسات جريمة غامضة والذي قد يمتد لسنوات.
الرواية هي مسرح لأحداث يحتاج لعلم جديد تُدرس فيه الروايات على شكل تحقيقي جنائي لمسرح جريمة. في مسرح الجريمة كل مسحة غبار لها أهميتها قد تكون هي مفتاح فهم كل ملابسات الحادثة أو الرواية.
علم دراسة "المتن" هو العلم الذي نحتاج أن نطلقه ونبدأه ونتوسع فيه بعد أن ظل "السند" هو سيد الموقف لقرون طويلة ما قادنا للتجمد والتحجر عند التلقين والتكرار والحفظ. لقد توقف العقل عن العمل ولم يعد للعبقرية مكان في ظل تسيد "السند" للموقف. فرأي الرجال في الرجال لا يحتاج لعبقرية وإنما لحفظ واجترار وتكرار أراء جامعي الروايات في رجال الروايات. هذا ما نحن بصدده و نعمل على تطويره وندعو إلى تجديده.
موضوع الدين والتدين ما هو إلا محاولة بدائية بسيطة من بعض المفكرين المعاصرين لفتح أفاق البحث والتجديد بعد ما غرقنا في قرون من الحفظ والتكرار والاجترار. الدين والتدين هما موضوعان مهمان جداً وكبيران جداً لدرجة أن الغوص فيهما بتفاصيل دقيقة ومعقدة يمكن أن تخرج فيه دراسات ماجستير ودكتوراه لنيل درجات البحث في علوم الدين والشريعة.
الخلاصة هي أنَّ قواعد منهجية التعامل مع الروايات الخمس والتي ختمناها بالتفريق بين روايات الدين وروايات التدين، هذه القواعد هي مجرد اجتهاد لدفع عجلة التطور للحركة للأمام. لرفع مستوى وسقف التوقعات من حفظ وتلقين وتكرار، إلى بحث وتفكير وابتكار.
لماذا يجب أن نقف عند الحد الذي وقف عنده فقهاء السلف قبل ألف سنة؟ لماذا لا نبني على جهدهم ونتحرك للأمام مثلهم فهم رجال ونحن رجال. محاربة أي جهد للتجديد و التطوير بحجة ما يسمونه "اتباع"، والذي هو تلميع لعملية التقليد العمياء، محاربة جهود الرقي بمستوى تفكيرنا بحجة أننا نأتي بما لم يأت به الأوائل، هي ذاتها الحجة التي رفعها كل أشقياء الأمم السابقة في وجه كل رسول ومصلح بقولهم كما قال الله جل في علاه (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ).
بهذا نختم مقالنا وبإذن الله سنعود لكم بمقال القواعد الخمس، حيث سنضع كل قواعد منهجية التعامل مع الروايات في إطار واحد لنرى صورة أكثر اكتمالاً ويكون لدينا مقال شامل فيه خلاصة القواعد الخمس، سائرون رغم الظروف نحوها غير مبالين بمشقة المسير. فهي #السعادة التي لدوامها نرنوا ولاستقرارها في قلوبنا نرسم المسارات، مشوارنا طويل ومستمر. فتابعونا.
No comments:
Post a Comment