قاعدة عرض الروايات على الحقائق العلمية (مقال التفاعل)

قاعدة عرض الروايات على الحقائق العلمية (مقال التفاعل)


في مقالنا اليوم سوف نحاول توضيح بعض الأمور التي تم إثارتها في التعليقات على موضوع القاعدة الثالثة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات. فكما تعلمون فإنَّ القاعدة الثالثة هي أن نعرض الرواية على الحقائق العلمية والتاريخية الثابتة بعد عرضها بالطبع على القرآن ثم المنطق الإنساني المشترك. نحن بالطبع قدمنا ثلاثة أمثلة لتوضيح كيف يمكن لرواية أن تتعارض مع الحقائق العلمية والتاريخية الثابتة. و قد وردت عدة اعتراضات على الأمثلة الثلاث وكل الاعتراضات كانت للأسف غير منطقية وقدَّمت دليل إضافي على أنَّ من يرفض تجديد معايير التعامل مع التراث والروايات، فهو واقع تحت تأثير تقديس الموروث وأنَّه لا يحب سماع غير ما ورد إليه من السابقين دون فحص أو تمحيص. 

إنهم يريدون البقاء على ما وجدوا عليه آبائهم، ومنهجهم لفهم دينهم يمكن اختصاره في الاستمرار في التكرار والتلقين والاجترار والحفظ والتسابق في دقة التقليد. وبالطبع هم لا يرون هذه الصورة بسبب أنه قد تم تقديم منهج التقليد الأعمى لهم بعد صبغه بمستحضرات تجميل تخفي قبح التقليد وعمى الاجترار. فبدل أن يسموا التقليد والتكرار والاجترار بأسمائها الحقيقية، يتم تقديمها لهم تحت مسمى "الإتباع". وهم من عمى بصيرتهم لا يرون حتى أنَّ أكثر ما ذمه القرآن هو اتباع الأمم السابقة لسلفهم وتمسكهم بمورثهم الديني والثقافي ما دفعهم لمحاربة الأنبياء والمصلحين الذين جاءوا بالتجديد والتصحيح.

عموماً لا أريد أن أطيل الشرح في طريقة خلل تفكير المدافعين عن الروايات الغير منطقية لأنَّ تعليقاتهم وردودهم تكفي لإظهار مدى ما هم فيه من اختلال منطقي وضياع فكري سببه الرئيسي هو استبعاد العقل في حضرة الدين. المهم عندنا هنا هو الرد على حججهم الخالية من المنطق والعقل والتي ساقوها في تعليقاتهم على المقالين السابقين. وسنرد على حججهم بنفس ترتيب الأمثلة الثلاث التي قدمناها كالتالي:

اعتراضات المثال الأول:
بداية سنعرض الرواية ثم نختصر جملة الاعتراضات مصحوبة بالرد عليها.
الرواية:
هناك رواية في البخاري تقول قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( تدري أين تذهب ) . قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، يقال لها : ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى( الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ))
اعتراضات المدافعين عن الرواية:
قالوا أنَّ سجودها تحت الشمس لا يعني السجود الذي نعرفه، وأنا معهم، لكن عندما سألناهم ما يعني سجود الشمس تحت العرش, قالوا هو خضوعها. وليكن كما قالوا، فهل هذا يعني أنَّ الشمس لم تكن خاضعة قبل الغروب؟ 
سيقولون لا، إنها خاضعة دائماً، وبالتالي نقول لهم دفاعكم عن الرواية سيسقط طالما كانت خاضعة قبل الغروب وخاضعة بعد الغروب. وبالتالي تفسيركم لسجود الشمس على أنه خضوعها ينزع عن الرواية أي معنى منطقي وهو الأمر الذي جعلنا نختارها كمثال على رواية غير صحيحة. 
ومن ناحية ثانية، لو أخذنا السجود في الرواية بمعنى الخضوع، فسنجد أنَّ كل شيء في الرواية يعطي معنى غير عقلاني وغير منطقي وغير متوافق مع سياقها. فلو أخذنا مثلاً الجزء الذي جاء فيه (ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها)، وبوضع الخضوع مكان السجود سنجد النص كالتالي (ويوشك أن تخضع فلا يقبل منها)!!!!!!. وهذا معنى غير مقبول فضلاً عن أن يكون منطقي. 
وبالتالي وبكل وضوح، فإنَّ لي عنق نص الرواية كي يبعدوه عن التصادم مع الحقائق العليمة لا يمكن أن يخرج مثل هذه الكلام المكذوب على رسول الله من كونه هراء لا يقبله العقل. وبالتالي يرفض كثير من السلفيين هم أنفسهم استخدام هذا التبرير بوضع السجود بمعنى الخضوع، ولهذا فإنَّ أغلب السلفيين والمتطرفين يتمسكون بالمعنى الحرفي للرواية ويقولون أنَّ الشمس تذهب وتسجد تحت العرش بعد أن تغرب؛ وبالتالي يقع هذه الفريق في التناقض الصريح والواضح مع الحقائق العلمية الثابتة التي ذكرناها في المقال.

اعتراضات المثال الثاني:
بداية سنعرض الرواية ثم نختصر جملة الاعتراضات مصحوبة بالرد عليها.
روى البخاري أيضاً عن سعد أنَّ النبي قال: (من اصطبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)
اعتراضات المدافعين عن الرواية:
وهنا يقوم المعترضين بتقديم كلام لا علاقة له بالرواية ولا يمس سبب رفضنا لها وذلك بقيامهم بالحديث عن فوائد التمر وأنَّ السبع هي ليست تعني سبع حبات تمر وإنما كثير منه. وهنا تبرز عدة أسئلة مهمة وهي أولاً، كيف للنبي أن ينصح بأكل كمية كبيرة من التمر وهو المعروف باحتوائه على نسبة كبيرة من السكر؟
النبي أصلاً لا ينصح بالإفراط في أكل أي شيء فما بالكم بالتمر!!!! سبع حبات تمر أو، كما يريد البعض، كمية كبيرة من التمر على الإفطار يعتبر كمية كبيرة من الطعام كوجبة إفطار ناهيك عن كونها غنية بالسكريات. ثم ما هي علاقة فوائد التمر بمنع السم من قتل الإنسان أو الإضرار به؟ الثابت علمياً ومنطقياً وتجريبياً أنَّ من يتناول السم يموت أو يتضرر بغض النظر عن ما أكل أو ما لم يأكل قبل تناول السم. 
الشيء الوحيد الذي ينقذ من السم هو الترياق المضادة لمادة السم. فهل قام المعترضون بعمل بحث علمي اثبتوا من خلاله أنَّ التمر فيه ترياق لكل السموم؟ وهنا نريد بحث علمي محترم ومحكم يثبت أنَّ التمر يبطل فعل السم بنسبة 100% فالنبي إن صدر عنه هذا الكلام فلابد وأنَّه لا يمزح وأنَّه يعني ما يقول. أي أننا لا نقبل دراسة علمية تثبت أنَّ أكل التمر يخفض أثار السم بنسبة حتى 99% لأنه حسب زعم الرواية فإن النبي يقول (لم يضره ذلك اليوم سم) وهنا لا يضره تعني لا يضره بالمطلق وليس 99%. فالنبي عندما يتحدث في أمور غيبية كهذه فهو بالفعل ينقل حقيقة صادقة بنسبة 100% يستخدم لها الكلمات الدقيقة المعبرة عنها بدقة. ليس فقط لأنه نبي، بل أيضاً لأنه من أبلغ العرب إن لم يكن أبلغهم وبالتالي عندما يتحدث يكون كلامه مختصر ودقيق في نفس الوقت.

ولنترك كل هذا الكلام ونأتي لحل عملي للمسألة، فنحن نعتبر الروايات ظنية ولا يمكن أن نعاملها معامل الوحي ولا القرآن لأنها وصلت بطريقة ظنية غير دقيقة وبالتالي يجب أن نتعامل معها بشك وعدم يقين. لكن هذا الكلام يزعج أصدقائنا الذين يتمسكون بالروايات كمصدر يقيني للا شك فيه. هم يريدوننا أن نقبل الروايات التي تم تصنيفها على أنها صحيحة مثل رواية التمر والسم "الصحيحة" عندهم ويرفضون فكرة معاملتها بالشك، وعدم اليقين. ولهذا أقول لمن يدافع عن الروايات ويرى أنها وحي صادق وأنَّ ما ورد في البخاري ومسلم هو حق ويقين مثل القرآن، أقول لهؤلاء ما عليكم إلا أن تثبتوا لنا أنكم تضعون الروايات "الصحيحة" موضع اليقين وترفضون وضعها موضع الشك عن طريق أكل كمية كبيرة من التمر ثم احتساء سم قاتل لنصدق أنكم بالفعل لا تتعاملون مع الروايات بالشك كما نتعامل معها نحن. أنا أرجوا السلامة للجميع ولا أنصح بتهور أحدهم بفعل هذا الأمر، لكن فعل أمر كهذا هو الذي يفصل بين من هو على يقين من أنَّ الروايات المصنفة على أنها صحيحة هي يقين صادق لا شك فيه، وبين من يشك في أنها قد لا تكون صحيحة وفيها شك. من يرفض تجرع السم بعد أكل التمر لسان حاله يقول أنه يشك مثلنا في صدق الرواية.

العجيب أنهم يشكون في صدق الرواية في قرارة أنفسهم، ومع هذا إذا قلنا أنَّ الرواية مشكوك فيها غضبوا واستشاطوا واتهمونا بكل التهم وقد يكفرونا بالمطلق!

اعتراضات المثال الثالث:
بداية سنعرض الرواية ثم نختصر جملة الاعتراضات مصحوبة بالرد عليها.
الرواية:
روى البخاري (عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله (ص) أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ).
اعتراضات المدافعين عن الرواية:
المعترضين بالطبع وقعوا في مغالطة منطقية تُسمى مغالطة الاستدلال الدائري من خلال أنهم اعترضوا بالقول أن القرآن فيه آية تثبت صحة الرواية قاصدين قوله تعالى تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ). فالآية بكل وضوح تتحدث عن يوم القيامة و ليس عن ما ورد في الرواية و سأوضح الأسباب بعد قليل. فالاستدلال الدائري الذي وقع فيه هؤلاء هو أنهم فسروا الآية بناءاً على ما ورد في الرواية ثم استخدموا تفسيرهم بالرواية لإثبات صحة الرواية وهذا أمر غير منطقي بالطبع.

المهم يرى البعض أنَّ صيغة الماضي لفعل "انشق" القمر تعني أنَّ الآية تتكلم عن أمر قد حدث لأنَّ "انشق" فعل ماضي. وفي الحقيقة فإن أغلب آيات القرآن التي تتكلم عن الساعة والقيامة ويوم الدين، أغلبها تستخدم صيغة الماضي والأمثلة كثيرة جداً مثل قوله تعالى في سورة الزمر (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).

وهنا يتحدث ربنا جل في علاه عن الأحداث التي ستحصل في المستقبل في يوم القيامة وكل حديثه جاء بصيغة الماضي مثل الأفعال (نُفخ - أشرقت – سيق – قيل - إلخ). أصلاً الله لا يحده مكان ولا زمان لأنه ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير. الله يرى المستقبل والحاضر والماضي بنفس الدرجة لأنه لا يخضع للزمن مثلنا.

على العموم، روايات انشقاق القمر كلها روايات آحاد ظنية ليس بينها أي رواية تُصنف على أنها متواترة أي أنها تم نقلها من أفراد لأفراد ولم تنتقل من جموع عن جموع كما ينبغي لمثل هذه الرواية. وبالتالي فإنه لو حصل وشق النبي القمر كما طلب كفار قريش لنقله مئات أو ربما آلاف من الذين شاهدوا هذه الحادثة الخارقة الفريدة وصار العرب يؤرخون بها. لكن لم يحصل شيء من هذا وجاءت الحادثة الخارقة الأعجوبة في روايات أفراد عن أفراد.

الأمر الأهم هو أنَّ القمر مرتفع بما فيه الكفاية ليرى انشقاقه باقي سكان الكرة الأرضية الذين كان يخيم عليهم ظلام تلك الليلة الأعجوبة. أي أنَّ أمر كهذا سيراه ملايين البشر ما يعني أنه سيحكي عنه كل المؤرخين في كل شعوب العالم وبكل اللغات. لكن لا يوجد أي إشارة تاريخية ولو شاذة بحصول هذا الأمر ما يؤكد أنها رواية مكذوبة. وقد قال بعضهم وماذا عن عصى موسى وشق البحر لقوم موسى الذي لا نجد له أثر في تاريخ ونقوش المصريين القدماء، فهؤلاء نقول لهم عصا موسى لم يراها ملايين البشر وإنما أناس محددين من الذين حضروا ذلك اليوم. وشق البحر لم يراه إلا بنو إسرائيل وجيش فرعون. فإما جيش فرعون فقد غرق كله ولم ينجو أحد ليخبر من بقي خلفه، وأما بنو إسرائيل، فقد رووا الحادثة بكل التفاصيل في كتبهم و منها التلمود. عدم ذكر معجزة من معجزات الأنبياء في تاريخ الشعوب لا يعني أنها لم تحدث كون شهودها هم عدد محدود وليس ملايين البشر مثل حادثة بحجم شق القمر. فإحياء عيسى للموتى لن يجد له علماء الآثار أي أثر مهما بحثوا لأنه ليس شيء مادي يترك أثر، ولكن من حضر حادثة الإحياء دوَّن في تاريخهم ما حدث ولهذا تم كتابة ما قام به عيسى عليه السلام من خلال قومه لأنهم حضروا وشاهدوا. ولهذا ولأن القمر يراه الجميع والملايين، فلابد وأن يتم توثيق معجزة بهذا الارتفاع والحجم والغرابة بشكل كبير ومكثف في تاريخ كل الشعوب وهو الأمر الذي لم يحصل على الإطلاق.

نكتفي بهذا القدر على أن نستمر بإذن الله في مقالنا التالي لنبدأ بتناول القاعدة الرابعة من القواعد الخمس للتعامل مع الروايات.
نسأل الله للجميع السلامة والصحة وأن يكون #للسعادة موضع المتربع في القلب مهما حصل حولنا.. فتابعونا.

No comments:

Post a Comment

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...