تمهيد مرحلة "منهجية فهم قصة الرسول"

تمهيد مرحلة منهجية فهم قصة الرسول

نبدأ اليوم أولى خطواتنا في محطة جديدة من محطات منهجية فهم أنفسنا وكل ما حولنا. فبعدما أنهينا سلسلة قواعد منهجية فهم وتدبر القرآن الكريم، ثم تبعناها بسلسلة منهجية التعامل مع الروايات، فإننا اليوم نبدأ سلسة منهجية فهم قصة الرسول صلى الله عليه و سلم. 

بالطبع أنا هنا لست بصدد تقديم سرد قصصي لشرح قصة الرسول، وبطبيعة الحال أنا لست هنا لأمارس التكرار والاجترار والتلقين الذي ظلت أجيال كثيرة من المسلمين لقرون طويلة تعيده وتكرره دون محاولة واقعية علمية حقيقية لفحص ما نعرفه عن نبينا عليه الصلاة و السلام.

هذه السلسة تهدف لوضع منهجية جديدة نعيد من خلالها التعرف على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وهو الأمر الذي سيجعل كثيرين يتفاجئون لأنهم سيكتشفون أنهم لم يكونوا يعرفوا من هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. سيشعر البعض بالغضب خاصة أولئك الذين يستعجلون ويقفزون للحكم على ما نقدم حتى قبل أن نقدمه. سيشعرون بأنني قد تجاوزت كل الحدود لمجرد أنني قلت ما لم تعتد عليه أسماعهم ولأنني أخالف ما وجدوا عليه آبائهم. هذه السلسة هي حلقة من ضمن حلقات إعادة هيكلة ما نعرفه عن ديننا للخروج من المأزق الذهني والأخلاقي الذي علقنا فيه منذ قرون طويلة.

وبما أنَّ هذا مقال تمهيد لمرحلة جديدة، فلن يكون هناك مقال مختصر ومقال مُفصَّل، بل سيكون هناك هذا المقال ومقال آخر للتفاعل مع التعليقات والأسئلة. على العموم، خطتنا للأسابيع القادمة بإذن الله هي للإبحار في مرحلتنا الثالثة والتي هي منهجية فهم قصة الرسول والتي بدأت بالفعل بمقال اليوم. 

في هذه السلسة الجديدة، نحن بصدد تقديم سبع مفاهيم أساسية تمثل منهجيتنا لفهم قصة الرسول عليه الصلاة والسلام.
التالي هو شرح مختصر لهذه المفاهيم التي سنتناول كل منها بثلاث مقالات كالمعتاد. مقال مختصر، مقال مُفصَّل، وآخر للتفاعل مع التعليقات والأسئلة. 

إليكم المفاهيم السبع:

المفهوم الأول: علاقة الرسول بالخالق العظيم جل في علاه

فهم علاقة الرسول برب العزة سبحانه وتعالى يعتبر حجر الأساس لتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة التي تشكلت حول شخص النبي عليه السلام والتي وصلت في بعض الحالات لدرجة التأليه. 
فعلى سبيل المثال: بعض الفرق الصوفية وصل بهم تعظيم شأن الرسول لدرجة اعتباره أنه ليس بشر من طين، وإنما هو جزء من نور الله، وخُلِق من نوره، وأنَّ كل الكون موجود من أجل الرسول، بل كل شيء خلقه الله خلقه لأجل النبي. 

هذه المبالغة التي تصل حد التأليه، تمثل انحراف كبير في فهم الدين ككل. فبمجرد نفي بشرية الرسول وجعل الكون مخلوق لأجله وليس العكس، فحينها ستنقلب كل الموازين و سيتم تفسير كل شيء بشكل مقلوب. التفريق بين مصطلح الرسول ومصطلح النبي، سيكون أحد أدواتنا لفهم علاقة الرسول بالله جل في علاه.

المفهوم الثاني: علاقة الرسول بأصحابه

هذا المفهوم أيضاً سيساعدنا كثيراً في تصحيح الصورة الملتصقة في أذهاننا حول أصحاب النبي، وكيف أنَّ فهم علاقة الرسول بأصحابه بشكل صحيح ستساعدنا لفهم أفضل لديننا. فنحن لأننا لم نعاصر النبي عليه السلام ولم نعِش معه، فإنَّ أذهاننا لا ترى من النبي إلا جانب الرسالة ولا نتخيل أنه يمكن أن يكون شيء آخر غير كونه رسول يحمل رسالة من عند الله عز وجل. 

وفي حقيقة الأمر لو فكرنا في من عاصره وعاشره عليه السلام، فسنرى صورة مغايرة. فالنبي لم يكن فقط يمثل الرسول الذي يحمل رسالة الله جل في علاه فحسب، بل كان لمن عاصره وعاش معه الرسول والقائد السياسي والقائد العسكري والقاضي. بل كان يمثل لبعضهم بطبيعة الحال أكثر من ذلك حيث كان لبعض من عاصره الأب أو الزوج أو الصديق وابن العم و القريب. 
عندما نصل لمناقشة هذا المفهوم سنكتشف أن هناك خلل كبير جداً في فهمنا للإسلام عموماً ولقصة النبي خصوصاً بسبب أننا ننظر للأمر من زاوية الرسالة فقط لأننا بالفعل لا يمسنا منه إلا هذا الجانب. فِهم أنَّ النبي كان يتعامل مع أصحابه بشكل يتجاوز كونه رسول يحمل رسالة السماء، وفِهم أنه مثّل دور الزعيم السياسي والقائد العسكري والقاضي بين الناس، كل هذا سيؤثر بشكل كبير على فهمنا للقرآن وعلى طريقة تعاملنا مع الروايات.

المفهوم الثالث: علاقة الرسول بمن جاء بعده

هنا نحن أمام المفهوم الذي يمسنا نحن كجيل حالي ويمس كل الأجيال السابقة وحتى اللاحقة من الذين لم تُتح لهم الفرصة لمعاصرة ومعاشرة الرسول عليه الصلاة و السلام. 
إنَّ علاقتنا بالرسول كرسول لا تتجاوز كونه رسول من عند الله حمل رسالة القرآن وأدَّى الأمانة وبلَّغ الرسالة على أكمل وجه. 
كثير من التشريعات والأحكام التي تم استنباطها من حياة النبي وسيرته تم إخراجها عن سياقها بسبب أن كثير من فقهاء السلف والخلف أضاف لكلام الرسول وأفعاله أبعاداً تتجاوز البعد الحقيقي لعلاقتنا به صلى الله عليه وسلم. فنحن وكل جيل لم يعاصر الرسول تخضع علاقتنا به عليه السلام لمعيار وحيد فقط وهو معيار الرسالة وما بلّغ الرسول منها.

المفهوم الرابع: قصة الرسول في القرآن

هذا المفهوم يعني أننا نقوم باستخراج قصة الرسول وصفاته من القرآن فقط لا غير. 
إذا قمنا بهذا العمل، والذي يمكن أن يُشرف عليه علماء ومفكرون، فإننا سنكون قادرين على الخروج بصورة أصح وأدق وأكثر مصداقية كون القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي بين أيدينا الذي نعلم يقيناً أنه قطعي الثبوت وأنه المصدر الوحيد لاستخراج المعلومة الحقيقية اليقينية المصدر. 

المشكلة تكمن في أننا بحاجة لجهد كبير من العلماء والمفكرين لبدء تطبيق مبدأ فهم القرآن من القرآن على نطاق واسع وتقليل الاعتماد على الروايات للحدود القصوى الدنيا. وحتى قبل أن نرى هذا الجهد يتحقق على أرض الواقع، فإن كثير من الذين يملكون أدوات البحث والتدبر يمكنهم بسهولة الخروج بخطوط عريضة أقرب لقصة الرسول ولشخصيته. 

في هذا المفهوم الرابع سوف نكتشف أنَّ فهم قصة النبي في القرآن هو أحد الأمور الجوهرية لإعادة هيكلة فهمنا تقريباً لكل شيء يتعلق بدين الإسلام.

المفهوم الخامس: قصة الرسول في الروايات

هنا نحن لا نحاول فهم قصة الرسول من خلال الروايات، وإنما الهدف من هذا المفهوم الخامس هو أن نساعد الجميع على رؤية مدى التناقض والاختلاف بين شخصية النبي في القرآن مقارنة مع شخصية النبي في الروايات. 
سوف نقوم بتقديم روايات من أهم كتب الحديث تعزز هذه الحقيقة التي طرحتها هنا وهي أنَّ هناك نبي في القرآن يختلف عن النبي الذي نعرفه من خلال الروايات. 

في الأساس، هذا المفهوم الخامس ليس مفهوم أساسي لفهم قصة النبي، وإنما تأتي أهميته في أن عقد مقارنة بين نبي القرآن ونبي الروايات سيساعد الكثيرين على رؤية أننا بالفعل بحاجة ملحة لتجديد فهمنا للدين كله، وأنه قد حان وقت أن يكون القرآن هو سيد الموقف كلما تعلق الأمر بفهم رسالة الله جل في علاه وبفهم قصة نبيه عليه السلام.

المفهوم السادس: التعرف على مفهوم الرسول الخاتم

أحد أهم الصفات المرتبطة بالنبي عليه الصلاة والسلام هي صفة الرسول الخاتم. هذه الصفة تحمل دلالات مهمة جداً لفهم كل الرسالات التي أرسلها الله وليس رسالة الإسلام فقط. قصة النبي يمكن أن ننظر لها بمنظور صغير كقصة إنسان عاش في زمان معين وبين ظهراني جيل محدد من الإنسانية، لكن هناك زاوية نظر أوسع وأعم وأشمل يمكن لنا من خلالها رؤية قصة الرسول كجزء من مسلسل قصة الإنسانية. هذا البُعد الأكبر والأعلى هو الذي سيساعدنا على استخراج مبادئ إنسانية أعلى وأسمى هي مقصود رسالة الإسلام. 
هذه المبادئ الإنسانية العليا تم تضييعها بفصل قصة النبي عليه الصلاة والسلام عن سياقها الإنساني والتاريخي المرتبط بتاريخ الإنسانية. وأحد أهم المبادئ التي يمكننا استخدامها لرؤية هذا الربط بين قصة النبي وقصة الإنسانية، هو مبدأ الخاتمية. كون الرسول عليه السلام هو الرسول الخاتم هي من الأمور التي ستفتح أعيننا على مفاهيم جديدة تخرجنا من حالة التقوقع التي نعيشها كمسليمن منذ قرون.

المفهوم السابع: مفهوم الرسالات و الرسل من المنظور القرآني

كون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان رسول جاء ضمن سلسلة من الرسل، فإن فهم قصته بشكل صحيح يحتاج منا لفهم مفهوم الرسالات والرسل.

فِهم المقاصد من إرسال الرسالات والرسل والذي لم يكن نبينا محمد عليه السلام بدعاً منها، فِهم هذه المقاصد سيمثل أحد الأساس التي يمكن أن نبني عليها فهمنا لقصة النبي بشكل أفضل. فِهم أسباب لإرسال الرسالات والرسل والغاية من كل رسالة سيساعد كثيراً على تطبيق المفهوم الرابع من مفاهيم فهم قصة النبي عليه السلام إلا وهو مفهوم فهم قصة النبي في القرآن. 

نبينا محمد عليه السلام جاء ضمن مشروع ذو مراحل أراد الله بهذه المراحل خير الإنسانية جمعاء، ولن نفهم قصة النبي إلا إذا فهمنا الخطوط العريضة لمشروع الإنسانية الذي وضعه الله جل في علاه على الأرض.

مفاهيمنا السبع هي مفاهيم مهمة ولكنها متشابكة ومتداخلة وبعضها يوضح بعض. قد يكون الترتيب عامل مساعد لتوضيح الرؤية، وقد تؤدي درجة التشابك بين هذه المفاهيم إلى إسقاط أهمية ترتيبها من 1 إلى 7. سوف نتعرف على الكثير من خلال السير في طرقات رحلتنا الجديدة التي تدور كلها على منهجية فهم قصة الرسول عليه الصلاة والسلام حلة ستكون ممتعة وشيقة وسعيدة فوق كونها مرحلة من مراحل مشوارنا نحو #السعادة.
لذا فإنني متحمس لهذا المرحلة خاصة وأنَّ رمضان على الأبواب وكلٌ منا ملتزمٌ في بيته. أعرف أن بعضنا ليسوا كذلك، لكن كلٌ يعمل على سد ثغرته ويترك ثغرات الآخرين لهم، فلن نحاسب على أعمال غيرنا حتى لو أثرت علينا. 
مشوارنا يكاد يكون كمغامرة، ولكنها ممتعة وشيقة.. فتابعونا.

مراجعة القواعد الخمس لمنهجية التعامل مع الروايات

مراجعة القواعد الخمس لمنهجية التعامل مع الروايات
وصلنا بفضل الله لختم قواعد منهجية التعامل مع الروايات بمشاركتكم آخر مقال من مقالات القواعد الخمس. اليوم بإذن الله نريد أن نقف وقفة مراجعة للتذكير، ولكي نتأكد أننا نعمل ضمن خطة تجديد واضحة تقودنا إلى #السعادة الدائمة في الدنيا والآخرة بإذن الله. 
بالنظر للخلف ولما أنجزناه معاً، سيسهل علينا ربط الأفكار الكثيرة التي نهدف بمراجعتها ألا نتوه وسطها فنفقد البوصلة التي تدلنا على الوجهة التي يجب أن نتجه إليها لبلوغ غاية ومنتهى مشروعنا، ألا وهو الوصول لسعادة دائمة مبنية على أصل ومصدر السعادة وهو فهم كتاب الله جل في علاه.
بإلقاء تلك النظرة من فوق لمسار رحلتنا، سنرى أننا في المرحلة الأولى من مشروعنا قد وضعنا سبع قواعد منهجية لتدبر وفِهم القرآن، وكان من ضمن هذه القواعد السبع أنه عند محاولة تجديد فهمنا للقرآن بعيون عصرنا لا بعيون وعقول عصور السلف، فإنه من الضروري أن نستبعد في بداية التدبر الفهم السلفي المشهور والذي تم اجتراره لقرون طويلة دون تجديد. 

هذا الاستبعاد لا يعني أننا نريد رمي فهم السلف في سلة المهملات أو أننا نسعى لإنكار السُنَّة و"هدم" الدين كما اتهمنا البعض زوراً وبهتاناً، بل لأننا نريد أن نرى صورة جديدة ونخرج بأفكار مختلفة هي لب ومخ التجديد، وإلا فإننا سننتهي لنفس النتائج التي انتهوا هم إليها، الأمر الذي بدوره يعني أننا لن نصل للتجديد ولن نرى الجديد. 
الغرض من الاستبعاد هو إعطاء العقل مساحة أوسع للإبداع وفرصة أكبر لرؤية أشياء جديدة لأنَّ القرآن به كنوز عميقة لن يصل لعمقها الإنسان إلا إذا غاص في أعماق النصوص القرآنية بشكل مختلف عمَّن سبقوه. فمِن المعروف أنَّ كلام الله جل في علاه ليس كلاماً عادياً مثل كلامنا نحن البشر ولا يمكن أن يكون بسيط وسطحي، وإنما فيه من العمق والمعاني ما فيه. لهذا قال ربنا جل جلاله (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا). 

ولكن كلكم تعرفون أنه يعيش بيننا نحن المسلمون فِرَق وجماعات سلفية تُحَرِّم التفكير وتُجَرِم استخدام العقل في الدين وشعارهم التقليد الأعمى والذي يُجَمِّلُونَه تحت مسمى "الإتباع". والتالي هم يزندقون ويكفِّرون كل من يحاول في عصرنا فهم القرآن بعقله وعينه وليس باستعارة عيون وعقول السلف. 
وكنتيجة لمنهجهم في رفض الجديد والتجديد، صار لكلام ربنا معاني محدودة ليس فيها عمق ولهذا هم يظنون أنَّ هذه المعاني المحدودة قد فهمها السلف وانتهى الأمر. وبالفعل تم تحجيم القرآن وتصغيره بحيث صار كتاب محدود القيمة لا يُنتِج لك معاني جديدة ولا يُخرِج لك كنوز فريدة كلما تعمقت في التفكير في آياته. 
قزَّموا كتاب الله بحيث أنه نفذت عجائبه وفرغت كنوزه  صار كتاب به معاني سطحية وصل إليها السلف منذ أكثر من 1200 سنة وانتهى الأمر و غُلِّق الباب بأصفادٍ ومغاليق.

على العموم، لقد واجهتنا مشكلتان. الأولى هي أنَّ السلف اعتمدوا على الروايات بشكل مكثف وأساسي لفهم وتدبر القرآن، ولأنَّ الروايات هي في حقيقتها قصص لأحداث محلية، فقد أدَّى هذا لجعل القرآن محلي المعنى والقيمة؛ ولهذا تجمد المسلمون لقرون بعد أن جمَّدوا كتاب ربهم بتجميد فهمه عند زمن معين. وبالتالي فإن الروايات ساهمت بشكل كبير في هذا الجمود الفكري بسبب طريقة تعاملنا الخاطئة معها. 

أما المشكلة الثانية عند محاولتنا لتجديد فهم القرآن فقد تمثلت في أنَّ أي محاولة تجديد يتم مواجهتها ومحاربتها عن طريق إغراق من يدعو للتجديد بسيل من الروايات التي 99% منها آحاد ظنَّية لكي يثبت بها السلفيون المتحجرون صحة دعوتهم للجمود و التقليد. أي أنَّ استخدام الروايات بطريقة خاطئة و وضعها في غير موضعها الصحيح أصبح هو التحدي الأكبر في وجه التجديد. ولهذا كان لزاماً علينا قبل أن نبدأ في تطبيق قواعد منهجية تدبر القرآن، كان لزاماً أن نضع قواعد لمنهجية التعامل مع الروايات التي بالفعل قد انتهينا منها اليوم بعرض القواعد الخمس للتعامل معها.   

الآن وبعد هذا التمهيد الموسع والنظرة العلوية للمسار، يمكن فهم ما يجري وأين نحن سائرون. فكما وضعنا قواعد منهجية لتدبر وفهم القرآن الكريم وناقشناها قاعدة قاعدة. فقد فعلنا نفس الشيء هنا بوضع القواعد الخمس لمنهجية التعامل مع الروايات. هذه القواعد الخمس تنقسم لمجموعتين كالتالي:
المجموعة الأولى: مجموعة التنقيح والتصفية
وهي متمثلة في القواعد الثلاث الأولى: العرض على القرآن، العرض على العقل، والعرض على ثوابت العلم والتاريخ

المجموعة الثانية: مجموعة التوظيف
وهي متمثلة في القاعدتين الرابعة والخامسة. اختبار التبليغ، وهل هي رواية تخص الدين أم التدين.
والآن دعونا نراجع القواعد الخمس معاً ضمن هذا المقال.

القاعدة الأولى: عرض متن الرواية على النص القرآني وكليات القرآن
اعتقد أنَّ هذه هي أسهل القواعد وأكثرها وضوحاً ومنطقية. فبعرض متن الحديث على النصوص القرآنية والقواعد الكلية التي يرسمها القرآن على طول الكتاب وعرضه، فسنكون قادرين على رؤية أي تناقض بين المعنى الذي تفيده الرواية، وبين كليات وقواعد القرآن. ففي حال ثبت التناقض بين متن الرواية وبين القواعد القرآنية التي تعبر عن الخطوط العريضة للدين، يمكن حينها إهمال الرواية ورفضها مهما علت درجة صحة سندها.

كمثال: هناك رواية وردت في سنن الترمذي تقول عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته فسمعته يقول : " إنَّ الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث."

يتعارض هذا الحديث تعارض مباشر تام ويصطدم بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

ففي حالة التعارض مع القرآن سيكون العمل الرشيد الممكن هو رفض هذه الرواية الظنية الآحاد عند هذه القاعدة الأولى وبالتالي لا نحتاج لعرضها حتى على باقي القواعد الأربع الباقية.

القاعدة الثانية: عرض متن الرواية على المنطق الإنساني العقلي المشترك
وهنا تعتبر هذه القاعدة هي المرحلة الثانية في اختبار صلاحية الرواية من عدمها. فإذا لم نجد ما يعارضها في القرآن، ولكنها كانت تصطدم مع العقل والمنطق الإنساني المشترك، سيثبت حينها عدم صلاحية الرواية للاستخدام في أي شيء لأنَّ الأخذ بها يعني أننا لم نحترم عقولنا التي هي مناطق التكليف بالدين في المقام الأول.

كمثال: هناك رواية في صحيح البخاري تقول (حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قِرْدة اجتمع عليها قِرَدة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم).
وهنا لا أعتقد أن عاقلاً يقبل مثل هذا الكلام فضلاً عن قبول ما يسمونه "الرجم" للزاني المحصن. وبغض النظر عن فكرة الرجم التي لابد وأننا سنتناولها يوماً ما بتفصيل أكبر، إلا أن فكرة أن يتم نسب فعل بشري محض خاص بالإنسان العاقل المكلف، هذا الفعل اسمه "الزنا" والذي تم نسبه للحيوانات، هي فكرة قمة في السذاجة وفيها قدر كبير من الاستخفاف بالعقل البشري. 
فالقِرَدة لا تعقد عقود زواج لكي يكون هناك شيء اسمه زنا لوصف العلاقة الجنسية خارج نطاق عقد الزواج!!!. هذا مجرد استخفاف بعقل الإنسان لا يمكن قبوله.

القاعدة الثالثة: عرض متن الرواية على الحقائق العلمية والتاريخية التي ثبت صحتها
هذه القاعدة تمثل تَفَحُّصِ متن الرواية عن طريق عرضها على الحقائق العلمية الثابتة التي انتهى الجدل العلمي في الأوساط العلمية حول صحتها من عدمه. وبالحقائق العلمية هنا نعني أي علم سواء علم تطبيقي كالفيزياء والكيمياء و الأحياء والرياضيات، أو علم إنساني مثل التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والاجتماع. ففي حال تعارض متن الرواية مع أي حقيقة علمية، فإنه يتم تركها كونها تقدم مفاهيم باطلة من الناحية العلمية. وهنا يجب التنبيه إلى أننا هنا نقصد متون الروايات التي تتناول شأن من شؤون الطبيعة والحياة الملموسة والمحسوسة وليست تتناول أمر من أمور الغيب. فالعلم لا يتعامل أصلاً مع الأمور الغيبية؛ ولهذا لا يصلح أن نستخدمه لتقييم رواية تتكلم عن أمور غيبية غير ملموسة وغير محسوسة كتلك التي تتحدث عن الجن والملائكة والجنة و النار.

كمثال: هناك رواية في البخاري تقول قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: ( تدري أين تذهب؟) قلت : الله ورسوله أعلم، قال: ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها : ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى (الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)).

مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن رسول الله لأنَّ رسول الله لا يؤلف مثل هذا الكلام غير الصحيح بالمطلق من دماغه. فالكل يعرف اليوم أنَّ الشمس لا تغيب أصلاً ولو لجزء من الثانية عن الأرض. فعندما تغرب الشمس عن بقعة ما على وجه الأرض، فهي تشرق في ذات نفس اللحظة في بقعة أخرى على الأرض وبالتالي كل القصة التي ألفها أحدهم ونسبها للنبي تتعارض مع حقائق علمية انتهى الجدل حولها في الأوساط العلمية مثل حقيقة دوران الأرض حول نفسها والذي يسبب ما يسمى غروب وشروق الشمس. 
وبالمناسبة، فإن السلفيين والمتحجرين على فهم السلف مازالوا يصرون ليومنا هذا على أن الأرض ثابتة لا تدور وأن الشمس هي التي تدور حول الأرض. هذا فقط للتذكير بطريقة تفكير هؤلاء وما وصلوا إليه بسبب تعطيل العقل.
.
القاعدة الرابعة: تحديد نوع الرواية من ناحية التبليغ
هنا نحن تبدأ قواعد التوظيف بالعمل لأننا بالوصول للقاعدة الرابعة فإننا نفترض أنَّ الرواية مرت بسلام بعد عرضها على القواعد الثلاث الأولى. وبالتالي نحن الآن لا نبحث عن صلاحية الرواية من ناحية إمكانية الوثوق بصدق ما ورد فيها من عدمه؛ إذ أن مصداقية الرواية تحددها القواعد الثلاث الأولى فقط. وإنما نحن الآن نبحث عن مضمون الرواية وإمكانية أن تكون متناولة لشأن من شؤون الدين أم أنها تروي حادثة وقصة لا علاقة لها بالدين. فإذا كانت الرواية تتحدث عن قصة عادية ليس فيها أي شأن ديني، حينها يمكن تصور أنها قد تكون مفيدة من ناحية البحوث التاريخية أو الاجتماعية، ولكن لا نستخدمها لإثبات أو نفي شيء في الدين كونها أصلاً لا تتحدث عنه. وللتنبيه هنا أيضاً، فإنه قد يحصل أن نستفيد من الرواية لفهم شيء في الدين، إذا أنتجت لنا البحوث التاريخية والاجتماعية نتائج علمية يمكن استخدامها لفهم وتدبر القرآن. حينها ستصبح الرواية لها بعد ديني لكن غير مباشر.

كمثال: ما ورد في البخاري أيضاً قوله "حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة".
فلو سلمنا بصدق هذه الرواية التي فيها جانب غير عقلاني وأغفلنا حقيقة أنها لن تمر عند عرضها على القاعدة الثانية التي تعرض الرواية على العقل، لو قبلنا بالرواية (و هي لا تُقبل) فإنها لا تحمل أي معنى ديني ولا يوجد لها أي فائدة ولا علاقة لها بأي شأن ديني.

القاعدة الخامسة: تحديد ما إذا كانت الرواية تختص بالدين أم بالتدين
وهنا نحن أمام القاعدة الثانية من قواعد التوظيف، فنحن هنا نفترض حسب تسلسل القواعد أنَّ القاعدة مرت بسلام خلال القواعد الثلاث الأولى، حينها وبخلاف القاعدة الرابعة المهتمة بزاوية التبليغ لنعرف هل يصح استخراج عقائد وتشريع منها، فإننا سننظر للرواية من زاوية أخرى هي زاوية قاعدتنا الخامسة.  
فقاعدتنا الخامسة مخصصة للنظر من زاوية الدين والتدين لمعرفة في أي شأن تتحدث هذه الرواية. فقد تكون الرواية تتناول شأن من شؤون الدين نفسه، أو قد تكون تتناول شأن من شؤون التدين. فكما نعلم أنَّ الدين كما عرَّفناه يقدم الجزء الثابت الغيبي من الرسالة، بينما التدين يقدم الجزء المتغير الاجتهادي من النبوة. وهذا التمييز سيؤثر كثيراً في طريقة توظيف الرواية من ناحية تدبر القرآن واستنباط المفاهيم والأحكام المستخرجة من القرآن.

فرواية مثل (لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) هي بكل وضوح شأن من شؤون الدين لأنها تمس عموميات الدين وتنطبق عليها كل سمات رواية الدين من حيث أنها تمس العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنَّ هذا الأمر ثابت لا يتغير. فلن يأتي زمان أو تحصل حالة لا ينطبق فيه معنى هذه الرواية.

ورواية مثل (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) هي كذلك بشكل جلي تتناول شأن من شؤون التدين. فصلاة الجماعة تعتبر من التفاصيل وليست من الأصول والعقائد. وبطبيعة الحال فصلاة الجماعة أمر يخضع للظروف والأحوال والأزمنة والأماكن أي أن أدائها من عدمه يتغير مع الظروف وهو ما لا ينطبق على أمور الدين الثابتة التي لا تتغير.

بفهم هذه القواعد الخمس لمنهجية التعامل مع الروايات، سنكون قد وصلنا لنقطة تحرج كل من رمانا بأننا ننكر السنة ونسعى لهدمها. فالذي لديه الحد الأدنى من الذكاء يمكنه من الآن ومن خلال الشرح المختصر للقواعد الخمس أعلاه أن يكتشف أننا لسنا فقط نضع قواعد لطريقة الأخذ بالروايات أو ما يسمونه اصطلاحاً للسنَّة، وإنما أيضاً نضع قواعد لطريقة توظيف ما يصلح منها. أي أننا نريد أن نتعامل مع الروايات ونعمل بها طالما كان الأمر يخضع لقواعد منهجية منطقية منضبطة، فتطوير قواعد التعامل مع الروايات هو ما نحتاجه للخروج من أزمة اجترار آراء الأولين والتكاسل عن تجديد قواعد الفهم والاستنباط والتي وضع فقهاء السلف رحمهم الله مثيلاً لها يتناسب مع الأرضية المعرفية والقيمية التي كانوا يقفون عليها في زمانهم، ولكن ليس لقواعدهم ديمومة الصلاحية لتصلح في زمننا. 
فما يصلح لكل زمان ويخترق حواجز المكان و لا تنتهي صلاحيته هو كلام ربنا العظيم وحده فقط جل في علاه. أما أفهام البشر وآرائهم هي محدودة محدودية قدرة الإنسان المخلوق الضعيف ولا تتجاوز حدود الزمان ولا حتى المكان. فلا يسافر عبر الزمان هو كما هو إلا القرآن فقط لا غير. وما عدا ذلك كل شيء يتجدد ويتغير مع الزمن.

نكتفي بهذا القدر اليوم على أن نعود إليكم بمقال عن مخططة رحلتنا القادمة ضمن مشوارنا نحو #السعادة، سائرون بإذن الله نحوها قاصدين ديمومتها ولن نكتفي منها بشذرات.
مشوارنا مستمر بإذن الله .. فتابعونا.

قاعدة التفريق بين روايات الدين و روايات التدين (مقال التفاعل)

قاعدة التفريق بين روايات الدين وروايات التدين (مقال التفاعل)

مقالنا اليوم معنيٌ بالتفاعل مع التعليقات والأسئلة التي وردت بخصوص موضوعنا الأخير في سلسلة قواعد منهجية التعامل مع الروايات. وكنا بالطبع وصلنا للقاعدة الخامسة لهذه المنهجية والتي هي فحص الرواية لمعرفة ما تتناوله. هل هو شأن من شؤون الدين، أم شأن من شؤون التدين. 
أهمية هذا التفريق بين ما يخص الدين، وبين ما يخص التدين، يكمن في أنَّ كثير من الروايات يتم معاملتها على أنها شأن من شؤون الدين العقدية التشريعية الملزمة وغير المتغيرة، بينما هي في حقيقتها تمس شأن من شؤون التدين الذي يحمل الكثير من المرونة علاوة على أنه قابل للتغير والتطور مع تغير الزمان والمكان والظروف. ولهذا فإنه من الضروري لكي نوظف الرواية التوظيف الصحيح أن نقوم بفحص متنها لنعرف حقيقة ما تمسه من الدين.

بطبيعة الحال نحن شرحنا ما نعنيه بالدين وبالتدين كمصطلحات نقصد بها معاني ومفاهيم بعينها، ولسنا بصدد إعادة الشرح هنا. لذا أرجو من الأخوة المتابعين الأفاضل الجدد أن يقوموا بمراجعة المقال السابق سواء في صفحتنا هذه أو في مدونة الصفحة للإطلاع على المزيد من الشروح والتفاصيل عما نقصده بمصطلح "الدين" و مصطلح "التدين". 
ولتسيهل الأمر، فإن رابط مدونة الصفحة التي يحوي كل المقالات السابقة هو في الأسفل:

والآن دعونا نبدأ التفاعل مع التعليقات والأسئلة التي وردت تحت المقالين المختصر والمُفصَّل. والتفاعل سيتم حصره في نقطة مهمة تم إثارتها في التعليقات وهي موضوع السند. للأسف البعض لا يفرق بين مصطلح "السند" سند الرواية، ومصطلح "المتن" متن الرواية. وأحياناً هناك من يعرف الفرق بينهما ولكنه ينسى أو لا يعرف أن السند وحده لا يكفي للحكم على الرواية بالصحة أو الضعف وأنه غالباً لا علاقة له بطريقة توظيف الرواية.

السند هو دراسة سلسلة رواة الرواية من نواحي عدة للوصول إلى استنتاج مبني على أغلب الظن في صحة الرواية أو ضعفها. فالسند الصحيح لا يعني أن الرواية حقيقية وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما ورد؛ لأنَّ هامش الشك والظن موجود في كل فرد من أفراد سلسلة الرواية. ولهذا صنف فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً كل الروايات بأنها ظنية الثبوت وتُروى بالمعنى لاستحالة الوصول لليقين اعتماداً على شهادة بشر في بشر. فكل جامعي الروايات سواء البخاري أو مسلم أو الترمذي أو أحمد أو ابن ماجة أو غيرهم، لم يقوموا بشيء أكثر من أنهم أعطوا رأيهم في أول فرد في سلسلة السند الذي كان حي وسمعوا منه بشكل مباشر، ثم استأنسوا لآراء غيرهم من الرواة أو المحدثين في باقي أفراد سلسلة السند الأموات معتمدين على ماذا قال فلان في صدق فلان وماذا قيل عن فلان في حفظه وورعه.
 أي أنَّ موضوع السند مبني كله على أراء ناس في ناس ورجال في رجال وليس مبني على أساس سماوي محسوم بتزكية إلهية بالاسم لأي فرد من أفراد الرواية. حتى الصحابي الذي يختم سلسلة الرواية لا يوجد لأي منهم صك تزكية سماوي نزل به جبريل على رسول الله في القرآن. بل العكس تماماً، النص السماوي الوحيد الذي تحدث عن أهل المدينة ومن فيهم صادق ومن منهم منافق، هذا النص نفى علم الرسول نفسه بأحوال قلوب أصحابه من ناحية الصدق أو النفاق بقوله تعالى من ضمن أواخر السور التي نزلت على رسول الله في سورة التوبة الآية 
101 (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ). 

تكفينا هذه الآية فقط لننزجر عن التأله على الله ومحاولة الظهور بأننا نعلم ما في القلوب ونعلم الصادق من المنافق. اقرءوا هذه الآية مرات ومرات وركزوا جيداً. الله جل في علاه الذي يعلم الغيب وما تخفي الصدور وحده لا شريك له في ذلك يخبر نبيه ويقول له ما معناه (أنت يا محمد لا تعلم الصادق من المنافق في المدينة من الذين من حولك، الله وحده يعلمهم). 
ركزوا في كل كلمة في الآية قبل أن يتأله أحدنا على الله ويدَّعي عصمة فلان أو علان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كأننا شركاء لله نعلم الغيب وما تخفي الصدور.

إذا أزلنا كل مستحضرات التجميل التي تم إلقائها على مصطلح "السند" طيلة القرون الماضية، فيمكن أن نرى بكل سهولة أنَّ السند ما هو إلا رأي ناس في ناس لا يعلم بعضهم ما في قلوب بعض، ولهذا تصحيح أو تضعيف الرواية كله من أوله لآخره مبني على أغلب الظن؛ ولهذا لا يمكن أن يكون "السند" معيار نستخدمه لجعل أي رواية مهما علا سندها مصدر تشريع قطعي لعقيدة أو حلال أو حرام. فالاعتقاد والحلال والحرام لا يمكن أن نبنيه على ظن؛ ببساطة لأنَّ الله عندما يحاسبنا يوم القيامة على عقائدنا والحلال والحرام، لن يحاسبنا بشيء ظني لأنه عادل لا يُحملنا ما لا نطيق ولا يحاسبنا على ما نحن لسنا متيقنين منه.

لهذا، يأتي دور مصطلح "المتن". المتن هو نص الرواية، كلام الرواية، قصة الرواية، وكل ما جاء فيها من أحداث. المتن هو ما يستحق الدراسة الشاملة والعميقة لكي نتمكن من توظيف الرواية أو التوصل لما يمكن أن نستفيد به منها. ما نحن بحاجة لتجديده بشكل ملح هو تجديد ما يسمونه علم الحديث والذي هو كله يمكن اختصاره في جملة "رأي بشر في بشر". 

كل علم الحديث بعمومه وبكل ما فيه من تفاصيل يدور حول رأي فلان في فلان وماذا قال فلان عن فلان. أنا بالطبع لا أقول أن كل ما قام به الرواة من جهد عظيم لا ينفعنا في شيء، بل إنَّ جهدهم عظيم و نسأل الله أن يجزل لهم الثواب والأجر على ما قاموا به من جهود جبارة. 
ما أود الإشارة إليه ليس التقليل من قيمة السند، وإنما التقليل من حجم الاعتماد عليه. نريد أن ننزل السند منزلته التي تليق به ونرفض رفعه منزلة القول الفصل في الحكم على الرواية و طريقة الاستنباط منها. 
السند يساعدنا على التخلص من كل رواية فيها شك واضح وضعيفة الطرق. هذا بكل تأكيد شيء عظيم سيجعلنا نقلص حجم الروايات التي تعد بعشرات الآلاف لتصبح بضعة آلاف. السند ساعدنا ويساعدنا في تصفية (فلترة) كثير من الوضع والكذب على رسول الله عليه الصلاة و السلام. لكن بعد التصفية التي يقدمها لنا السند، سيبدأ العمل الشاق والمهم والمضني والذي هو دراسة "المتن". المتن هو الذي يُعتبر عمل عقلي وجهد فكري يحتاج لأذكياء وعباقرة للبحث والتدقيق والاستنتاج. 
دراسة المتن هو عمل جبار لأنَّ كل رواية تحتاج لعمل يكافئ في حجمه عمل المحققين الجنائيين في البحث في ملابسات جريمة غامضة والذي قد يمتد لسنوات. 
الرواية هي مسرح لأحداث يحتاج لعلم جديد تُدرس فيه الروايات على شكل تحقيقي جنائي لمسرح جريمة. في مسرح الجريمة كل مسحة غبار لها أهميتها قد تكون هي مفتاح فهم كل ملابسات الحادثة أو الرواية.
علم دراسة "المتن" هو العلم الذي نحتاج أن نطلقه ونبدأه ونتوسع فيه بعد أن ظل "السند" هو سيد الموقف لقرون طويلة ما قادنا للتجمد والتحجر عند التلقين والتكرار والحفظ. لقد توقف العقل عن العمل ولم يعد للعبقرية مكان في ظل تسيد "السند" للموقف. فرأي الرجال في الرجال لا يحتاج لعبقرية وإنما لحفظ واجترار وتكرار أراء جامعي الروايات في رجال الروايات. هذا ما نحن بصدده و نعمل على تطويره وندعو إلى تجديده. 

موضوع الدين والتدين ما هو إلا محاولة بدائية بسيطة من بعض المفكرين المعاصرين لفتح أفاق البحث والتجديد بعد ما غرقنا في قرون من الحفظ والتكرار والاجترار. الدين والتدين هما موضوعان مهمان جداً وكبيران جداً لدرجة أن الغوص فيهما بتفاصيل دقيقة ومعقدة يمكن أن تخرج فيه دراسات ماجستير ودكتوراه لنيل درجات البحث في علوم الدين والشريعة.

الخلاصة هي أنَّ قواعد منهجية التعامل مع الروايات الخمس والتي ختمناها بالتفريق بين روايات الدين وروايات التدين، هذه القواعد هي مجرد اجتهاد لدفع عجلة التطور للحركة للأمام. لرفع مستوى وسقف التوقعات من حفظ وتلقين وتكرار، إلى بحث وتفكير وابتكار. 
لماذا يجب أن نقف عند الحد الذي وقف عنده فقهاء السلف قبل ألف سنة؟ لماذا لا نبني على جهدهم ونتحرك للأمام مثلهم فهم رجال ونحن رجال. محاربة أي جهد للتجديد و التطوير بحجة ما يسمونه "اتباع"، والذي هو تلميع لعملية التقليد العمياء، محاربة جهود الرقي بمستوى تفكيرنا بحجة أننا نأتي بما لم يأت به الأوائل، هي ذاتها الحجة التي رفعها كل أشقياء الأمم السابقة في وجه كل رسول ومصلح بقولهم كما قال الله جل في علاه (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ).

بهذا نختم مقالنا وبإذن الله سنعود لكم بمقال القواعد الخمس، حيث سنضع كل قواعد منهجية التعامل مع الروايات في إطار واحد لنرى صورة أكثر اكتمالاً ويكون لدينا مقال شامل فيه خلاصة القواعد الخمس، سائرون رغم الظروف نحوها غير مبالين بمشقة المسير. فهي #السعادة التي لدوامها نرنوا ولاستقرارها في قلوبنا نرسم المسارات، مشوارنا طويل ومستمر. فتابعونا.

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...