قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (المقال المختصر)

قاعدة فحص التبليغ عند التعامل مع الروايات (المقال المختصر)
وصلنا اليوم لمحطتنا الرابعة في قواعد منهجية التعامل مع الروايات. القاعدة الرابعة هي أولى القواعد في عملية توظيف الرواية بشكل مناسب بعد أن تكون قد مرت على قواعد الفحص الثلاث الأولى التي شرحناها في الأسابيع الماضية. ولأنَّ هذا المقال هو الإصدار المختصر ضمن المقالات التي تتناول الموضوع، فلن نتوسع كثيراً في الشرح لنترك التوسع لمقالنا القادم بإذن الله عندما ننشر المقال "المُفصّل". القاعدة تقول:

القاعدة الرابعة: تحديد نوع الرواية من ناحية التبليغ
تعتبر مهمة جداً جداً جداً لأنها تقدم مفهوم مهم جداً جداً جداً تم إغفاله كثيراً في كل مدارس الفقه والشريعة التقليدية التي لا تقدم تدبراً وإنما اجترار وتقليد. للأسف إغفال هذه القاعدة عند التعامل مع الروايات يعتبر من أحد أهم الأسباب في انحراف فهم الدين. فالروايات هي كما يوحي اسمها، ما هي إلا أحداث مرت وقصص حصلت في حضور الرواة الذين قاموا برواية القصة أو الحادثة لغيرهم. ومن خلال سلسلة من الرواة يعنعن بعضهم عن بعض وصلت الرواية لأحد جامعي الروايات (مثل مسلم و البخاري) واستقرت في مدوناتهم التي أصبحت في متناول الجميع فيما بعد. 

المشكلة تكمن في أنَّ الناس من بعدهم  قاموا بمعاملة كل الروايات على أنها دين أو جزء من الدين في حين أنَّ الغالبية الساحقة العظمى من الروايات لا يمكن اعتبارها من الدين لأسباب وجيهة ومنطقية جداً كما سنوضح في الآتي:

## النبي صلى الله عليه وسلم بشر مثل باقي البشر وليس آلة يتحكم فيها جبريل عليه السلام تنطق مثل الروبوت ما يملى عليها. أي أنه كان يتلو الوحي (القرآن) لأصحابه عندما يأتيه الوحي لينجز مهمة التبليغ الموكلة إليه وفيما عدا ذلك فهو يمزح مع أصحابه ويغازل زوجاته ويسأل عن أحوال من يتكلم معه. 

و لأنه بشر، فهو يسير في الطرقات ويدخل الأسواق ويشتري ويتكلم مع العامة وتمر به حالات وحكايات مثله مثل باقي البشر ولهذا كرر الله جل في علاه هذه الحقيقة في القرآن مثل قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
وفوق كونه بشر يتكلم في عموم ما يتكلم فيه البشر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قائداً سياسياً وعسكرياً يحمل مهام قيادية تشمل فيما تشمل الأمر والنهي عن فعل الأشياء فيما يخص شؤون الناس المدنية والعسكرية؛ وبالتالي تصور أن كل كلامه وحي وأمره ونهيه حلالاً وحراماً هو تصور غير صحيح. ولتوضيح الموضع أكثر سنقدم النقاط التالية:

أ) الرسول عليه السلام مكلف تكليفاً إلزامياً من الله جل في علاه بتبيلغ الوحي والرسالة للناس ولا يملك أن يختار التقصير في التبليغ حتى لو أراد أن يقصِّر. وحكمة الله وعلمه وقدرته تقتضي أنه لا يختار لتبليغ الرسالة إلا من هو أهل لها وقادر عليها، وهذا ما حدث بالفعل. فالرسول أهلٍ لحمل الأمانة، وقد بلّغ الرسالة على أكمل وجه صلى الله عليه وسلم.

ب) عدم بلوغ الرسالة التي كلّف الله رسوله بتبليغها كما ينبغي لها أن تُبلَّغ، هي إما طعن في أمانة الرسول واتهام له بالتقصير، أو طعن في قدرة الله وحكمته واتهام له بالعجز عن أن يكون قادر على ضمان بلوغ رسالته أو اختيار الرسول المناسب القادر على حمل أمانة التبليغ، سبحانه وتعالى عن هذا علواً كبيراً.
ج) الغالبية العظمى الساحقة الطاغية من الروايات هي أحداث عابرة اشترك في أحداثها بضعة أنفار منهم راوي الرواية. هذا علاوة عن أنَّ الغالبية العظمى الساحقة من الروايات هي روايات آحاد أي رواها أفراد عن أفراد ليس جموع غفيرة عن جموع غفيرة.
د) "التبليغ" كلمة واضحة وصريحة المعنى بحيث لا أظن أنه سيختلف اثنان في دلالة معناها. "تبليغ" الرسول لأمر من الدين أراد الله عز وجل أن يبلغنا يعني أن الرسول سيقوم بكل الإجراءات اللازمة للقيام بتبليغ رسالة ربه على أكمل وجه.
هـ) إجراءات التبليغ لابد وإلزاماً أن تحتوي على الأقل واحد من الأمور الثلاث التالية أو كلها:

أولاً: جمع أكبر عدد ممكن من الناس وتبليغهم.
ثانياً: تحميل من حضر أمانة تبليغ من لم يحضر.
ثالثاً: طلب الرسول من بعض الحاضرين التوثيق الكتابي بتدوين ما قاله لهم.

أي رواية تخلوا من العناصر الثلاث أعلاه هي دليل على أنَ الرسول لا يبلغ شيء من الدين أراد الله جل في علاه أن يبلغنا.

من خلال النقاط أعلاه، يتبين لنا حجم الفوضى الكبيرة التي حدثت بسبب التركيز على سند الروايات عند جمعها وإغفال جزئية أساسية فائقة الأهمية مثل دراسة مسرح الرواية وما دار فيها وما قيل فيها لنعرف هل الرواية كانت تُعَبِّر عن حالة تبليغ لأمر ديني تشريعي، أم أنها مجرد حدث عادي لا علاقة له بالدين والتشريع. 

هذا أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبها ويرتكبها معظم من يعمل في دائرة فهم الفقه والتشريع وفهم الدين والتشريع السماوي. ولتوضيح الأمر أكثر سنقدم بعض الأمثلة على روايات يتم استخدامها على أنها تشريع لحلال وحرام وتُعامَل على أنها جزء من الدين في حين أنها لا ينطبق عليها وصف التبليغ. فما لا ينطبق عليه وصف التبليغ يعني مباشرة أن الله لم يطلب من رسوله تبليغه؛ وبالتالي لن يكون هذا الأمر من الدين فضلاً عن أن يكون تشريعاً.

المثال الأول:
ورد في كتاب صحيح مسلم وغيره الرواية التالية:
عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها)
وبالنظر للرواية بتمعن وتفحص، نجد الآتي:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد و لم تُروى من جموع عن جموع
## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية)
وبالتالي يمكن بكل ثقة ووضوح القول بأن النبي عليه السلام لم يكن في حالة تبليغ. وكونه لم يكن في حالة تبليغ، فهذا يعني أنَّ ما قاله لم يكن وحي أراد الله منه أن يُبلّغه لقومه. وبما أنَّ الرواية ليست مما أراد الله أن يُبلّغه رسوله لقومه, و أنها ظنية أي لا يستطيع أحد الجزم بنسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يمكن القول أنَّ هذه الرواية (إن صحت) لا تحمل أي أمر ديني أو تشريعي. ومع هذا وللأسف قام كثير من فقهاء السلف بمعاملتها على أنها تشريع وجعلوا سفر المرأة بِمَحْرَم أو بدونه أمر ديني فيه حلال وحرام وهو الأمر الغير صحيح بالمطلق.

المثال الثاني:
ورد في البخاري الرواية التالية:
حدثنا مطرف سمعت الشعبي يحدث قال سمعت أبا جحيفة قال (سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم شيء مما ليس في القرآن وقال ابن عيينة مرة ما ليس عند الناس فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر)

وبالنظر في الرواية سنجد نفس الشيء:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد لم تُروى من جموع عن جموع
## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية).

فالرواية كما ترون هي ليست حتى من كلام النبي وإنما من كلام علي بن أبي طالب. فالرواية بكل وضوح لا تحمل أي شيء له علاقة بعملية "التبليغ"، ما يعني أنَّ الله جل في علاه لم يُرد أصلاً أن يبلّغنا هذا الكلام وبالتالي هذه الرواية لا تحمل أمر ديني أو تشريعي. ومع ذلك، وللأسف قام كثير من فقهاء السلف والخلف باستحداث أحكام في الدين بناءاً على هذه الرواية وشبيهاتها مثل إفتائهم بأن عقوبة قتل النفس العمد تختلف حسب ما إذا كان المقتول مسلماً أو غير مسلم. وكأن الرواية تقول أنَّ المسلم طالما يملك مال كافي لدفع دية من لا يحب من غير المسلمين، فما عليه إلا أن يقتله ثم يدفع الدية لأنه حسب الرواية لا يجوز قتل المسلم كعقوبة عندما يقتل غير المسلم.

المثال الثالث:
ما ورد في كبريات كتب الحديث مثل رواية مسلم التالي فيما جاء على لسان عبد الله بن مسعود مما نسبه لرسول الله بقوله:
(لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)
و نفس الشيء سنجده هنا:

## الرواية بكل طرقها أحاد ظنية رواها أفراد عن أفراد ولم تُروى من جموع عن جموع

## الرواية لا تحمل أي عنصر من عناصر التبليغ الثلاث (جمع الناس - توصية الحاضر بإعلام الغائب - الأمر بتدوين الرواية).

وأيضاً هنا لم يرد الكلام حتى عن رسول الله بشكل مباشر، وإنما مما أدُعي أن النبي قاله. وكل علامات التبليغ مختفية بالطبع، ولكن للأسف يتم التجرؤ على الله وادعاء أنَّ اهتمام المرأة بشكلها وجمالها هو أمر محرم يؤدي إلى اللعن والطرد من رحمة الله. أي أن الرواية تقول لنا بأنَّ الله عندما قدر أن يكون في إحدى النساء قبح في الوجه، فإنه يريدها أن تُبقي على قبحها ولا تغيره لأنه تغيير لخلق الله! وبغض النظر عن عدم منطقية محتوى الرواية، إلا أنَّ الأهم عندنا هنا هو أنَّ الرواية تخلوا بالكلية من أي علامة دالة على أنَّ النبي كان مأمور بتبليغ هذا الأمر للمؤمنين، وهو الأمر الكافي لمعرفة أنَّ رواية كهذه لا يؤخذ منها دين فضلاً عن الحلال والحرام.

وهنا نكون قد وصلنا لنهاية مقالنا المختصر على أن نتوسع في الشرح في مقالنا المُفصّل القادم بإذن الله.
زقكم الله #السعادة ودامت لكم.. فتابعونا.

1 comment:

  1. كلامك غير صحيح .ما ينطق عن الهوى .لم يحدد اهو بالتبليغ ام لا . ثانيا انت وضعت المحددات وتحاكم النصوص على محدداتك . فما معنى ما اتاكم الرسول فخذوه .وما نهاكم عنه فانتهوا . ولم يقل ما اتاكم الله فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . خلاصة كلامك الطعن في عدول الصحابة ومن يكذب على رسول الله يكذب على الله ايضا .ثم لم تذكر الرويات ولا حتى في القران انه عندما كان ينزل الوحي كان الرسول يجمع الناس ويقلهم ما قلت .كان يقول لمن معه . فلقد سبقق شحرور الى هذا . فلا تدخل في الدين ما ليس لك به علم

    ReplyDelete

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده

مفهوم علاقة الرسول بمن جاء بعده   ها قد عدنا للمقالات بعد توقُّف دام لقرابة الشهرين. فقد أثَّر افتتاح قناة اليوتيوب وإعداد الحلقات...