قاعدة عرض الروايات على الحقائق العلمية الثابتة (المقال المُختصَر)
نصل اليوم لمحطتنا الثالثة في سلسلة قواعد منهجية التعامل مع الروايات. قاعدتنا اليوم تمثل المعيار الثالث أو الميزان الثالث لتقرير ما إذا كان يمكن الأخذ بالرواية أو أنَّه يجب تركها. القاعدة الثالثة تقول:
القاعدة الثالثة: عرض متن الرواية على الحقائق العلمية والتاريخية التي ثبت صحتها
يمكن من خلال اسم القاعدة أن نستشف البعد الأساسي لهذه القاعدة، حيث يبدو جلياً أنَّه بعد عرض الرواية على القرآن والعقل، فإنَّه يأتي دور الاختبار العلمي لها. فقد تمر رواية من الروايات قيل أن سندها صحيح من عرضها على القرآن بسلام بحيث أننا نستنتج أنها لا تعارض آيات القرآن ولا كلماته. وبعدها تمر على القاعدة الثانية التي تختبر توافقها مع العقل أو ما أسميه المنطق الإنساني المشترك، فإنَّ مرت أيضاً، ستكون الخطوة التالية في اختبار الرواية هو عرضها على ما انتهى الجدل حوله في الأوساط العلمية وصار حقيقة ثابتة. ولأنَّنا هنا في صدد تقديم المقال المختصر، فلن نتوسع في الشرح، وسنذهب مباشرة للأمثلة على أن نقدم مزيد من الشرح والتوضيح في مقالنا التالي المُفصَّل.
لكن قبل أن ننطلق للأمثلة يجب توضيح أمر جوهري كي لا يتم إساءة فهم القاعدة. فنحن هنا نؤكد على أنَّ مشروع قواعد منهجية التعامل مع الروايات يهدف لوضع الروايات الموضع الذي يليق بها من الناحية العلمية والعقلية بحيث لا يتم تقديسها كما حدث ويحدث لقرون. وبالتالي نحن لا نسعى لإنكار السُّنة أو رمي الروايات جملةً وتفصيلاً كما قد يتبادر إلى أذهان البعض. و للتأكيد على ذلك، فإنَّنا نعرف أنَّ الدين والوحي والقرآن جاء ليغطي الجانب الغيبي في حياة الإنسان و جيب عن بعض تساؤلاته ويساعده لفهم البُعد المعنوي الروحي والغيبي من الحياة. فالقرآن ليس كتاب علم ولا هو مقصود في أصالته أن يتعامل مع الماديات. في المقابل، فإنَّ العلم يتعامل مع الماديات ولا علاقة له بالغيبيات لأنَّ العلم يدرِّس ما هو محسوس وملموس وقابل لإخضاعه للتجربة المعملية وما يمكن دراسته في المختبرات العلمية. ولهذا يمكن بكل بساطة رؤية أن كل من العلم والدين يعملان في مجالان لا علاقة لأحدهما بالآخر.
بناءً على ما تقدم، فإنَّ الروايات التي تتكلم عن الغيب أو تتعامل مع الأمور الغيبية لا يصح ولا يصلح أن نعرضها على الأمور العلمية الثابتة كون العلم التجريبي لا يستطيع أن يقدم أي تقييم للرواية التي تتناول أمور غيبية مثل الروايات التي تتكلم عن الجنة والنار والحساب والآخرة والجن والملائكة. هذه الأمور كلها غيبية ما يعني أنَّنا لا نعرضها على التجربة العلمية الثابتة. الروايات التي يتم عرضها على العلوم الثابتة المقطوع بصحتها هي تلك التي تتعامل مع الأمور المادية والمحسوسة والملموسة. حينها، فإنَّ الرواية يجب إخضاعها للعلوم الثابتة لنتأكد من عدم تعارضها مع ما هو ثابت علمياً بشكل مقطوع به.
والآن دعونا نقدم الأمثلة على روايات تتعارض مع العلم لنبيِّن حقيقة أنَّ الروايات لها طبيعة ظنية تجعلها عرضة للخطأ مهما صح سندها. ولهذا يجب أن تبقى الروايات أداة للاستئناس وليست أداة للفصل القطعي اليقيني.
المثال الأول:
هناك رواية في البخاري تقول قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( تدري أين تذهب ) . قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، يقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى( الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ))
المثال الأول:
هناك رواية في البخاري تقول قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( تدري أين تذهب ) . قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، يقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى( الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ))
هذا مثال صارخ واضح على رواية مكذوبة على رسول الله تسربت لكتاب البخاري. فالبخاري بشر وجهده جهد بشر ولهذا قد يثق في رجال سلسلة الرواية ويرى أنهم ثقات لا يكذبون، في حين أنه بعرض الرواية على الحقائق العلمية المقطوع بثبوتها سنقف أمام حقيقة أنَّ أحد الرجال الذين صنفهم البخاري على أنهم عدول صادقين هو كذّاب يكذب على رسول الله ويقوِّله ما لم يقل. وثبوت أنَّ أحد رجال السلسلة كذّاب هو كثبوت حقيقة أن الشمس لا تغرب عن الأرض أبداً. وسنوضح الأمر في نقاط:
## الغروب والشروق لا يحدثان أصلاً نتيجة لحركة الشمس ولا علاقة له بالشمس وإنما له علاقة بدوران الأرض حول نفسها. فتعاقب الليل والنهار الذي نراه بأعيننا ناتج عن دوران الأرض حول محوراها.
## الشمس عندما تغرب في مكان ما على وجه الأرض، فهي تشرق في نفس ذات اللحظة في مكان آخر وهي أصلاً في وسط السماء في ذات نفس اللحظة في مكان ثالث. أي أنَّ ما ظهر في الرواية من كلام عاري عن الصحة تماماً.
## الشمس تغرب في كل لحظة عن مكان ما على وجه الأرض وهو أمر لا يتوقف ولا يتغير ويحدث على مدار اليوم والليلة حسب الأماكن المختلفة على وجه الأرض. وبالتالي بشكل علمي دقيق، فإنَّ الشمس في حالة غروب مستمر وفي حالة شروق مستمر لأنَّ الأمر غير مرتبط بحركة الشمس، وإنما بدوران الأرض حول محورها.
المثال الثاني:
روى البخاري أيضاً عن سعد أنَّ النبي قال: (من اصطبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)
وبطبيعة الحال فلا يمكن أن يكون مثل هذا الكلام قد صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكلنا نعرف أنَّ السم يضر إن لم يقتل. ولا يمكن لإنسان أن يتناول سم أو يُدس له سم إلا ومات أو تضرر. وحتى لو افترضنا حصول حالات نادرة (إن وجدت) لم يؤثر فيها السم على أناس بعينهم، فهذا الأمر ليس عام على كل الناس. أي أن أي إنسان يتناول السم سواء بمحض إرادته أو بدسه له، فإنه سوف يموت أو يتضرر. لا يوجد أي سبب علمي يربط بين تناول التمر وبين إبطال عمل السم. بل ولا يوجد أي شيء منطقي يربط بين عدد السبع تمرات وبين عدم التأثر بالسم. ولهذا فإنَّه لا شك في أنَّ هذا الحديث قد كذبه أحد رجال سلسلة البخاري على رسول الله، وحصل أنَّ البخاري اعتبر كل رجال الحديث ثقات وعدول ولهذا دوَّنه في كتابه. وهذا خطأ من ضمن الكثير من الأخطاء التي وقع فيها ألبخاري والذي يعد أفضل من جمع الروايات عن كثير من المحققين. وهذا يثبت بالطبع أننا على حق في الحاجة لمراجعة الروايات ووضعها الموضع الذي يليق بها وعدم تقديسها تقديس آيات كتاب الله جل في علاه.
المثال الثالث:
ومازلنا مع البخاري إذ روى (عن أنس بن مالك أنَّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ).
وهذا حديث يمكن إثبات كذبه بكل سهولة من خلال الحقائق التاريخية الثابتة في حياة الإنسانية. فمن ألف الحديث وكذبه على رسول الله نسي أنَّ القمر يراه كل أهل الأرض. و أنه لو حصل أنَّ النبي قد شق القمر لكفار قريش حسب طلبهم، فإن القمر مرتفع بالكفاية ليراه ملايين البشر الذين يسكنون حينها في منطقة الشرق الأوسط بأسرها لأنَّ جزء كبير من الليل مشترك بينهم. لو حصل أنَّ القمر قد انشق، فلابد وأن تزخر به كتب المؤرخين وسيتحول أصلاً لتاريخ يستخدمه البشر لتحديد أزمنة حصول الأحداث. بل كان لابد وبدون أدنى شك سيتحول هذا الحديث لحديث متواتر ينقله جموع عن جموع وتزخر به كتب الروايات والمؤرخين. لكن أن تصل حادثة ضخمة بضخامة انشقاق القمر عن طريق رواية آحاد ظنية، فهو دليل على أنَّ هذه الرواية ما هي إلا محض كذب وتلفيق. وهي دليل آخر على أنَّ البخاري ومن جمع الروايات كانوا يحسنون الظن بسلسلة رجال الروايات ويصنفونهم على أنهم عدول في حين أنَّ بينهم كذّابين يختلقون الروايات من رؤوسهم.
نكتفي بهذا القدر البسيط لأنَّ هذا هو المقال المختصر على أن نقدم المزيد من التفاصيل بإذن الله في المقال القادم عن قاعدتنا الثالثة من قواعد منهجية التعامل مع الروايات.
نسأل الله لكم #السعادة ودوامها.. فتابعونا.