وقفة مراجعة (مرحلة وضع قواعد منهجية التعامل مع الروايات)
بعد أسبوعين تقريباً من بدء تناولنا للمرحلة الثانية من مشوارنا للبحث عن مداومة الشعور #بالسعادة فقد آن أوان المراجعة. فكما أوضحنا من بداية مشوارنا، إن مراجعة الوجهة ومراقبة وتعديل المسار أهم من بلوغ نهاية المسار نفسه. فنحن نملك أن نسير وأن نراجع ونُعدّل، لكن لا نضمن أنَّ أعمارنا ستمتد لبلوغ الهدف. ولهذا فنحن أمام الله لا نُسأل عن الهدف، وإنما عن المسار لأنَّ العمر قد ينتهي وأنت على المسار الصحيح لكن قبل بلوغ الهدف.
فكما يعلم المتابعون، فنحن أنجزنا منذ قرابة الشهر محطتنا الأولى بوضع قواعد منهجية لتدبر وفهم القرآن الكريم. ثم قمنا من بعدها باقتحام مرحلتنا الثانية منذ أسبوعين وهي وضع قواعد منهجية للتعامل مع الروايات والتي نقصد بها الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم والسيرة وفِقه فقهاء السلف عليهم رحمة الله جل في علاه. وأنا هنا لا أحاول أن أطنب أو أكرر، وإنما أقوم بالمراجعة كما ينبغي لها أن تكون. فكل وقفة مراجعة للمسير تحتاج لنظرة علوية للخريطة كاملة كي نعرف موقعنا بالضبط. وبالقياس على موقع الهدف، يمكن لرؤية الخريطة كاملة مع تطور مشوارنا وتراكم المعرفة التي حصَّلْناها خلال المسير أن يساعدنا على اكتشاف أي انحراف في مسارنا عن الهدف أو ربما نكتشف طريقاً أقصر وأفضل نحو الهدف. المهم هو أنه يجب ألا نمل ولا نستعجل في المسير ولا في المراجعة كي نضمن مساراً صحيحاً نحو هدف صحيح.
عندما بدأت في أعداد هذا المقال وألقيت بنظرة علوية على مسارنا فقد تمكنت من رؤية تالي المراحل و هي كيف نضع قواعد منهجية للتعامل مع كل فهم وتدبر جديد للقرآن ولديننا بشكل عام. فبعد مرحلة وضع قواعد منهجية التعامل مع الروايات سنكون أمام حقيقة أننا أمام باب للاجتهاد مفتوح يحق لمن لديه أدوات وحجة وإقناع أن يلج خلاله وينهل من كنوز القرآن ومن عمق ما فيه من معاني. عندما نجد تفكر هنا وتدبر هناك ويخرج علينا من نعرف ومن لا نعرف برؤية جديدة، كيف نتعامل مع هذا الوضع وما هو الذي يمكن نقبله وما لا يمكن تقبله. نحن لم نصل لهذه المحطة الثالثة بعد و إنما أحببت أن أشارككم ما رأيت لمَّا راجعت.
والآن دعونا نراجع ما أنجزناه في المرحلة الثانية تحديداً، ونتعرف على مواضع أقدامنا خلال هذه المرحلة. المرحلة الثانية والتي هي مرحلة وضع قواعد منهجية للتعامل مع الروايات كانت ولا تزال مرحلة شاقة تتميز بوعورة مسالكها وكثرة عوائقها التي جعلت البعض يتنكب عن الطريق. لكن رغم مشقاتها وصعوبة مساراتها، إلا أنَّ الصابرين مِمَّن علم أنَّ له عقلاً هو مصدر إنسانيته ومناط تكليفه بحمل الأمانة ازداد ثقة بربه وقرآنه وعلم أنَّ دين الله جميل جمال آيات الكون التي تسلب العقول والألباب. الصبر والمثابرة ومتابعة المسير ليست فقط تُرينا بأننا بالفعل على المسار الصحيح، بل تجعلنا نكتشف أننا قد تأخرنا كثيراً وأننا بفضل الله قد أفقنا بعد سبات ظل جاثماً على صدورنا لقرون.
في هذه المرحلة الثانية قدَّمنا جملة من الحقائق والمسلَّمات تمهيداً لصب قواعد منهجيتنا على أساسٍ متين. فقد عرضنا من الحقائق والمسلمات التي غُيبت عمداً عن عامة المسلمين كي يستمروا في السبات والتقليد والاجترار والحفظ والتلقين. علمنا من الحقائق الآتي:
أ) الروايات كلها على بكرة أبيها هي ظنية الثبوت أي أنه يُظن أنَّ رسول الله قال، فعل أو أقر فيها شيئاً.
أ) الروايات كلها على بكرة أبيها هي ظنية الثبوت أي أنه يُظن أنَّ رسول الله قال، فعل أو أقر فيها شيئاً.
ب) كل فقهاء السلف والخلف وحتى جامعوا الأحاديث والروايات أنفسهم لا يدعي أحدٌ منهم قطعية ثبوت ولو حديث واحد بنفس درجة قطعية ثبوت القرآن.
ج) أكثر من 99% من الروايات هي آحاد، بينما ما نسبته ما بين 0.07 % إلى 1% تصنف على أنها متواترة. والآحاد هو الذي رواه أفراد عن أفراد من طريق واحد أو بضعة طرق، بينما المتواتر هو ما تعددت طرقه ورواه جمع عن جمع في كل طبقات سند الرواية.
د) كل كتب الحديث الستة المشهورة التي تشمل البخاري ومسلم، كلها تم تدوينها بعد قرون من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حال ثبت أنَّ جامعوا الأحاديث أنفسهم مثل الأمام البخاري والإمام مسلم قد كتبوا كتبهم بأنفسهم، فهذا سيعني أنَّ الفارق الزمني بين زمن حدوث أحداث الروايات وزمن تدوينها يتراوح ما بين 200 إلى 250 سنة.
هـ) الغالبية العظمى من الأحاديث تم تدوينها في القرن الثالث الهجري وهو القرن الأكثر شهرة في وضع الحديث ورواج تأليف الروايات والأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحسب مقدمة البخاري في كتابه، فإنه يمكن بحسبة بسيطة استنتاج أنَّ البخاري أقر بأنه ترك ما يقرب من 99% من الروايات التي سمعها ولم يدون سوى 1% فقط.
و) بمقارنة طريقة وصول القرآن مع طريقة وصول الروايات، تبين الآتي:
## الفارق الزمني بين زمن نزول آيات القرآن و بين زمن تدوينها هو صفر (0)، بينما الفارق الزمني بين زمن حدوث أحداث الرواية وزمن تدوينها مما هو متاح بين أيدينا اليوم هو مئات السنين (200 إلى 300 سنة).
## القرآن جمعه ودوَّنه نفس الجيل الذي سمعه من فم النبي مباشرة، بينما كل الروايات والأحاديث التي بين أيدينا كلها على بكرة أبيها جمَّعها ودوَّنها أجيال أتت بعد قرون من زمن حدوث تلك الروايات
## القرآن بآياته الـ 6236 آية ومنذ زمن نزوله، انشغل المسلمين بحفظه وتحفيظه آية آية حتى ظهرت له ملايين مدارس التحفيظ على مر القرون وهي التي خرَّجت عشرات ملايين الحفاظ إلى يومنا هذا، بينما لا يوجد مدارس تحفيظ الروايات لا قديماً ولا حديثاً. ولكي نتحرى الدقة، فإنه وإن حصل وجود من حفظ كل الروايات عن ظهر قلب فسيكون نادر جداً مقارنة بعشرات الملايين الذين حفظوا القرآن على مر القرون. لكن لا نعرف بوجود مثل هؤلاء إما لأنهم لا يوجدون أصلاً أو لندرة وجودهم.
## القرآن بآياته الـ 6236 آية ومنذ زمن نزوله، انشغل المسلمين بحفظه وتحفيظه آية آية حتى ظهرت له ملايين مدارس التحفيظ على مر القرون وهي التي خرَّجت عشرات ملايين الحفاظ إلى يومنا هذا، بينما لا يوجد مدارس تحفيظ الروايات لا قديماً ولا حديثاً. ولكي نتحرى الدقة، فإنه وإن حصل وجود من حفظ كل الروايات عن ظهر قلب فسيكون نادر جداً مقارنة بعشرات الملايين الذين حفظوا القرآن على مر القرون. لكن لا نعرف بوجود مثل هؤلاء إما لأنهم لا يوجدون أصلاً أو لندرة وجودهم.
ز) كلام النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن ليس وحي وقد قدمنا أدلة قرآنية دامغة على أنَّ النبي يجتهد كبشر يصيب ويخطأ وكان ينزل القرآن للتنبيه على أي اجتهاد أو عمل لا يكون صحيح مثل عبوسه في وجه الأعمى، وتوليه عنه، وتحريمه على نفسه ما أحل الله له، وإذنه لبعض المنافقين بالقعود والتخلف عن النفير العام والجهاد، وغيرها من القصص المشهورة عند من يتخذون الروايات دليل إثبات أو نفي.
ح) هناك فرق بين الدين والتدين. فالدين هو الكليات والعموميات من أمور الغيب وما يترتب على الإيمان به، بينما التدين هو التفاصيل المترتبة على الاعتقاد والتصديق بالدين. الدين ثابت لا يتغير بتغير الأزمنة ولا تبدل الأماكن، بينما التدين هو اجتهاد يخضع لمتغيرات الزمان والمكان؛ ولهذا جاءت الشرائع متباينة بين الأنبياء والرسل لاختلاف أزمنة وأماكن ظهورهم.
ناقشنا كل النقاط السابقة على مدى أسابيع وخلصنا لعدة أمور مهمة أهمها هو أنَّ الروايات والقرآن لا يقفان على نفس القدر من الموثوقية والثبوت. وأنَّ القرآن هو الذي يحكم على الروايات وليس العكس كما هو متعارف عند من يصرون على اجترار فقه السلف دون تجديد أو تطوير.
عندما نعلم أن القرآن قطعي الثبوت جمعه ودونه نفس الجيل الذي سمعه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الروايات ظنية الثبوت تم جمعها كلها بعد قرون من أحداث رواياتها، عندها لا نستنتج أنَّ ناقل هذه المسلمات هو ماسوني صهيوني يحارب الدين يعمل لحساب جهات تريد هدم الإسلام، وإنما نستنتج أننا أخطأنا يوم ساوينا بين القرآن والروايات.
عندما نعلم أنَّ كلام النبي من غير القرآن ليس وحياً وأنَّ هناك فرق بين الدين الثابت والتدين القابل للاجتهاد والتغير، فحينها لا نستنتج أنَّ محدثكم كافر وزنديق يسعى لإنكار السنة وازدراء الفقه والفقهاء، وإنما نستنتج أننا ضيقنا واسعاً وجعلنا في الدين حرج.
للأسف.. فقد تعرضت لهجمة شرسة من الاستهزاء والتحقير والتكفير والطعن والتشكيك لمجرد أنني قدمت بعض الحقائق التي غابت وغُيّبت عن عموم المسلمين وهو الأمر الذي أدى لجمود فكري قاتل كان كفيل بتربع دول المسلمين على عرش الفساد والتخلف لقرون. لم يقدم المعترضين أي مناقشة رصينة ولا قدموا على حوار منطقي فيه عقل ومنطق وحجج وأدلة تخضع للعقل والمنطق، وإنما تمحورت معظم تعليقات المعترضين على السب والشتم والتشكيك والطعن بدون برهان.
ورغم كل هذا الكم من الإساءة والظلم، فلم تلن عزيمتي ولم تهتز ثقتي بربي بأنَّه جاعلٌ لهذه الأمة مخرجاً من السبات الذي تغط فيه منذ قرون. فعلى العكس تماماً، فقد زادت ثقتي بنفسي وفهمي ومشروعي لمَّا رأيت أنَّ المعترضين لا يلتزمون بشيء بسيط كآداب الإسلام في الحوار والاختلاف، فكيف نتصور أنهم فهموا الإسلام أو أنهم بالفعل غاضبون له. والأهم، الأكثر أهمية بكثير هو حجم التأييد الكبير والمتابعة الواسعة من عشرات الآلاف الذين لديهم عقول تميز ويحترمون حقيقة أنهم قادرون على التفكير والتقرير.
بصراحة، حجم المشاركات الإيجابية سواء إعجاب أو مشاركة المقالات أو التعليقات الإيجابية الكثيرة، كل هذا التفاعل الإيجابي من عشرات الآلاف جعل حجم المعارضين السلبيين أصحاب معاول الهدم يتضاءل في نظري. ليس فقط لأنَّ حجمهم بالفعل ضئيل مقابل حجم التأييد، وإنما أيضاً لضآلة أفقهم وسوء أخلاق معظمهم. فهم في وادٍ، وسعة الأفق والصدر والأخلاق في وادٍ.
ولكي لا يُساء فهمي، فأنا أتحدث عن الذين يسبون ويطعنون ويلقون بالتهم ولا برهان لهم عليها بدون ورع ولا خوف من الله جل في علاه. أمَّا من اختلف معنا اختلافاً جميلاً فهو من نبحث عنه ونترقب مشاركاته وتعليقاته أكثر مما نترقب تعليقات المؤيدين .... لأنَّ الذي يختلف معك، بمجرد أن يفتح فمه ليحدثك عن وجهة نظره، فقد أهداك سعة في النظر لأنَّه مكَّنك أن ترى زاوية لم تنظر من جهتها من قبل. فمرحباً بكل مختلف وأهلاً بتعلم الجديد على أيديهم.
وفي الختام، فسوف نستمر في مشوارنا بإذن الله بعد هذه الوقفة البسيطة للمراجعة ولتحري موضع الأقدام ألا تزل فينحرف بنا المسار أو يتعطل المسير.
إليها سائرون بإذن الله، وهي قادمة إلينا تسعى. إنَّها #السعادة. لا حرمكم الله وإيانا رفقتها وحلاوة سكناها في القلب.. فتابعونا.